الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

موسيقى عصر التنوير

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
تحركت الثورة الفرنسية من قلب «عصر التنوير» ولم تقتصر على إلغاء النزعة الإقطاعية المطلقة، وإحلال النظامين الاقتصادى والسياسى محلها، بل أكملت ما بدأته حركة الإصلاح الديني؛ فحررت الفرد وجعلت منه سيدًا ومالكًا لحياته، يعتمد فيها على نفسه فحسب. ولم يعد مركز الإنسان فى العالم وطريقة عمله متوقفين على سلطة خارجية، بل على نشاطه العقلى الحر. ومنذ ذلك الحين أصبح تقدمه فى المعرفة هو الذى يوجهه فى صراعه مع الطبيعة ومع التنظيم الاجتماعي.
وقد أوضح «هربرت ماركيوز» – فى كتابه القّيم: «العقل والثورة» – أن الإنسان أخذ على عاتقه تنظيم الواقع وفقًا لمتطلبات تفكيره العقلى الحر بدلًا من الاكتفاء بتشكيل أفكاره وفقًا للنظام القائم والقيم السائدة. وعقل الإنسان يتيح له أن يتعرف على إمكاناته الخاصة، وعلى إمكانات عالمه، ومن ثم فهو ليس واقعًا تحت رحمة الوقائع المحيطة به؛ وإنما هو قادر على إخضاعها لمعيار أرفع هو معيار «العقل». لذلك، فإن التحول الحاسم الذى طرأ على التاريخ مع الثورة الفرنسية كان انتقال الإنسان إلى الاعتماد على عقله، وتجاسره على إخضاع الواقع المعطى لمعايير العقل. ومن هنا نظرت فلسفة التنوير إلى العقل بوصفه قوة تاريخية موضوعية تستطيع - بمجرد أن تتحرر من قيود الطغيان - أن تجعل العالم مكانًا يتحقق فيه التقدم والسعادة.
وقد أسهم فلاسفة «التنوير» بأفكار جديدة فى مجال الموسيقى، حيث أعلن «فولتير» و«أوديسون» – فى القرن الثامن عشر – مذهبًا جماليًا فى الموسيقى ترجع جذوره إلى الامتزاج الفيثاغورى بين الرياضة والصوت، فقد آمنا بأن المتعة التى نستمدها من الموسيقى أو السرور الذى تبعثه الأنغام الموسيقية (بما تثيره من خيال) هما بالفعل حسيان. لكنهما انتهيا إلى أننا عندما ندرك الجمال بالحدس، فإن تلك هى إحدى الوسائل التى يتبعها الخالق لكى يكشف لنا صنعته المحكمة. إذن، فالموسيقى ذاتها وسيط حسى للتعبير ينطوى على مضامين أخلاقية تبعث على التأمل الديني.
وقد اكتسبت نظرية المحاكاة القائلة: «إن الفن تقليد للطبيعة»، أهمية كبيرة فى الأبحاث الفلسفية فى القرن الثامن عشر؛ حيث انتشرت فيه الدعوة للعودة إلى الطبيعة والانصراف عن حياة المدنية. وترتب على ذلك منطقيًا أن تكون الموسيقى انعكاسًا للإيقاع الذى يسود الكون. ومن هنا رأى «ديدرو» فى الموسيقى محاكاة للانسجام الكوني، وكما أن الطبيعة ذاتها لا تخطئ فى تقديراتها أبدًا، فكذلك يتألف الجمال فى الموسيقى من نسب صحيحة. واتفق «جان جاك روسو» مع «ديدرو» فى رأيه إن الموسيقى محاكاة للطبيعة، ودفعته روحه النازعة إلى الإصلاح إلى استخدام اللغة الفرنسية فى الموسيقى الغنائية؛ حيث قال: «إن لهجة اللغات هى التى تحدد الألحان فى كل أمة، واللهجة هى التى تجعل الناس يتكلمون وهو يغنون». وكان «روسو» – شأنه شأن معظم فلاسفة العصور القديمة والعصور الوسطى وعصر الإصلاح الدينى – يزدرى الموسيقيين الذين يكتبون موسيقى بلا كلمات، فموسيقى الآلات تحتل فى مذهبه الجمالى مكانة ثانوية؛ ولذلك يقول: «إذا لم تكن الموسيقى قادرة على التصوير إلا باللحن ومنه تستمد كل قوتها، فإنه يترتب على ذلك أن كل موسيقى غير غنائية مهما كان من توافقها، ليست إلا موسيقى من النوع المحاكي، ولا تستطيع بهارمونياتها الجميلة أن تؤثر فى النفس أو تصور شيئًا، وسرعان ما تترك الأذن والقلب جامد لا يتأثر». 
وقد قام «روسو» بدور مزدوج: دور فيلسوف عصر التنوير الذى يدعو إلى العودة إلى الطبيعة بوصفها شفاء من كل الشرور الاجتماعية، ودور الموسيقى الذى وضع مذهبًا جماليًا عقليًا فى الموسيقى مبنيًا على مبادئ ميتافيزيقية. ولم يجد غضاضة فى إصدار أحكام قطعية، سواء بوصفه فيلسوفًا أو بوصفه موسيقيًا. وقد كتب فى بحث بعنوان: «رسالة فى الموسيقى الفرنسية» يقول: «إننى أعترف بأنى لا بد أن أزدرى شعبًا يولى أهمية مفرطة لأغانيه، ويضع موسيقييه فى مرتبة أرفع من فلاسفته». ويقول أيضًا: «إن مهمة الشاعر هى أن يكتب شعرًا، ومهمة الموسيقى هى أن يؤلف موسيقى، ولكن الفيلسوف وحده هو القادر على أن يبحث فى هذا وذاك معًا».