الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

"كرنك" نجيب محفوظ

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
ميَّز «أرسطو» بين «الفن» و«التاريخ»، على أساس أن الفن يعنى بالكلى فى حين يعنى التاريخ بالجزئي. وهو يرى أن مهمة الفنان ليست فى رواية الأمور كما وقعت فعلًا؛ بل رواية ما يمكن أن يقع، ذلك أن المؤرخ والفنان يتمايزان من حيث كون أحدهما يروى الكل بينما التاريخ يروى الجزء. ففى كتابه «فن الشعر» عرض «أرسطو» مشكلة التفرقة بين «الفن» و«التاريخ»، وهذه المشكلة على صلة وثيقة بالموضوع الذى نتناوله الآن، ألا وهو علاقة الإبداع الفنى بالتاريخ، والتى سوف نعالجها من خلال رواية «الكرنك» لنجيب محفوظ. 
إن قراءة أعمال نجيب محفوظ تضعنا أمام فصول من سيرتنا - كمصريين - التى يتناولها محفوظ فى نصوص منفصلة ومتكاملة فى آن واحد. وما من أديب عربى معاصر، شاعرًا كان أم كاتبًا، حظيت أعماله الأدبية باهتمام واسع، سواء من القرَّاء أم من النقَّـاد، بمثل ما حظيت به روايات الكاتب المصرى نجيب محفوظ، ولا نجد ذلك أمرًا مستغربًا، أو سرًا من الأسرار، ذلك أن نجيب محفوظ، المولود فى القاهرة عام 1911، والحاصل على جائزة نوبل عام 1988 قد برهن منذ بواكيره الأدبية: «همس الجنون» 1938، وهى مجموعة قصصية، وفى رواياته التاريخية الثلاث: «عبث الأقدار» 1939 و«رادوبيس» 1943 و«كفاح طيبة» 1944، على وجود موهبة روائية واعدة لفتت إليها النقَّـاد فى النصف الأول من القرن العشرين. وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية (1939- 1945)، وما خلفته تلك الحرب من تحولات عميقة فى المجتمعات البشرية كافة، انتقل محفوظ من تاريخ مصر القديم، الغنى بالأمجاد، إلى الواقع المصري، الذى نال نصيبه من تلك التحولات، فصدرت له رواية «القاهرة الجديدة» 1945، التى أثارت غضب السلطة وغضب شيوخ الأزهر بسبب واقعيتها الصارخة والجارحة، وتلتها أربع روايات هى «خان الخليلي» 1946، «زقاق المدق» 1947، «السراب» 1948، «بداية ونهاية» 1949، وقد تُوجت هذه المرحلة، من إبداع محفوظ، بعمارته الروائية الرائعة «الثلاثية» («بين القصرين» - «قصر الشوق» - «السكرية») وهى من الروايات التى تسمى بالفرنسية «Roman fleuve» أى «الرواية - النهر» لتناولها عدة أجيال متتالية من أسرة واحدة، وقد عززت «الثلاثية» بسياقها المتماسك، وسبر أعماق أشخاصها ولغتها الجلية، وتقنيتها الروائية العالية، عززت ما اكتسبه الكاتب من شهرة فى مصر وفى العالَم العربى على السواء، بفضل رواياته السابقة، وأثبتت فى الوقت عينه جدارة محفوظ فى مجال الكتابة الروائية.
فى عبارة واحدة لخص الناقد الراحل «غالى شكري» حياة نجيب محفوظ، حيث وصفه بأنه «أشجع فنان وأجبن إنسان»، وهذه العبارة تنطبق بدقة على أديبنا العربى الكبير. فمحفوظ طالما وجه انتقادات لاذعة للسلطة، عبر الرمز والصراحة الحذرة، من خلال نصوص أدبه الفياض، لكنه حرص دومًا على أن تكون مواقفه من الحكومات المتعاقبة فى مصر أضعف من أن تورطه فى مشكلة، أو تلقيه يومًا فى غياهب السجن، الذى كان قدرًا للكثيرين من أدباء ومفكرى مصر، فى العقود التى خلت. لم يخرج نجيب محفوظ عن الخط العام الذى حدده لحياته وهو الابتعاد عن السلطة، لكنه ركز على العموميات، ونأى بنفسه عن السياسة اليومية أو الصراع السياسى الوقتى بين هذا الحزب أو ذاك، ولذا لم يخض تجربة السجن، التى عاشها كثير من المفكرين والأدباء المصريين، خلال ستينيات وسبعينيات القرن العشرين. لم ينتمِ نجيب محفوظ طيلة حياته إلى أى تنظيم سياسي، لكن حياده هذا كان أقرب إلى الحيلة الفنية منه إلى الموقف السياسي. وقد حدد رؤيته السياسية الليبرالية على لسان أبطاله فى العديد من رواياته وفى مقدمتها «الكرنك»، «ثرثرة فوق النيل»، «ميرامار»، «اللص والكلاب»، «يوم قتل الزعيم»، «السمان والخريف». أى أنه جعل رواياته ساحة لطرح أفكاره السياسية، ووصل فى اعتماد هذا النهج إلى درجة مرتفعة، بحيث يمكن القول إن رواياته قد تخلو من أشياء كثيرة، لكنها لا تخلو قط من السياسة. 
كتب نجيب محفوظ روايته «الكرنك» فى سنة 1970، وأتمها فى شهر ديسمبر سنة 1971، ونشرها سنة 1974 بعد أن توافر ما لم يكن متاحًا من حرية التعبير والنشر فى الموضوع الذى عالجته هذه الرواية التى تُعَد الأولى من نوعها فى الأدب العربى الحديث. وعندما نُشِرَت رواية «الكرنك» واجه نجيب محفوظ هجومًا شرسًا من الناصريين والتقدميين عمومًا، فقد صُـوِّر العهد الناصرى فى تلك الرواية وكأنه عصر محاكم التفتيش، وأن مصر فى ذلك الوقت لم تكن أكثر من سجن كبير. و«سوء الحظ» هنا هو أن عام صدور الرواية (1974) كان هو ذاته عام الهجوم الوحشى الشامل على المرحلة الناصرية، فاعُتبرت «الكرنك» إسهامًا فنيًا فى المعركة ضد عبدالناصر. 
يروى نجيب محفوظ كيف وردت إلى ذهنه فكرة رواية «الكرنك»، فيقول: 
«أما فكرة رواية الكرنك، فقد وردت إلى ذهنى وأنا أستمع إلى أصدقاء مقهى (ريش)، وهم يقصون علىّ ما لا قوه من صنوف التعذيب أثناء فترة اعتقالهم. قلت لنفسى لماذا لا أسجل هذه الأحداث فى عمل روائى ألفت الأنظار إلى خطورة هذه القضية؟. واختمرت فكرة الرواية فى رأسى بعد أن قابلت اللواء حمزة البسيونى الذى كان مديرًا للسجن الحربي. رأيت حمزة البسيونى مرة ثانية فى مقهى عرابي، حيث كنت جالسًا، وإذا به يدخل المقهى ويقترب منى ويقول فى لهجة محايدة: (سعيدة يا أستاذ)، ثم جلس على منضدة مجاورة. وبعد أيام لقى مصرعه فى حادث تصادم مروع وهو فى طريقه إلى الإسكندرية». (رجاء النقاش، نجيب محفوظ - صفحات من مذكراته وأضواء جديدة على أدبه وحياته، مركز الأهرام للترجمة والنشر، القاهرة، 1998، ص 245).
ويستطرد نجيب محفوظ، قائلًا: 
«فى تلك الفترة كان هناك مخطط للهجوم على عبدالناصر، وبعد خروج رواية «الكرنك» للنور، توالى ظهور الأعمال والكتب التى تهاجم عبدالناصر وعهده. ولذلك ظن كثيرون أن «الكرنك» بداية لحملة، فى حين أن ظهورها جاء مصادفًة، ولا دخل لها إطلاقًا بتلك الحملة... والذى دفعنى لكتابتها هم هؤلاء الشبان الذين قصوا علىّ ما تعرضوا له من تعذيب أثناء اعتقالهم». (المرجع السابق، ص ص 246 – 247).