الثلاثاء 16 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

موسيقى عصر النهضة

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
بدأت مظاهر عصر النهضة فى الظهور والسيادة بعد أن أصاب الاتجاهات الفلسفية – التى ظهرت فى العصور الوسطى – الاضمحلال والتدهور، فسادت النهضة فى إيطاليا أولًا ثم تبعتها الدول الأوروبية الأخرى. وبدأت تحتل موسيقى هذا العصر مكانها الصحيح بين الفنون، بعد أن تعرضت طويلًا لسوء الفهم والإغفال؛ وخضعت لإساءة التصور والتقديرات الجمالية الزائفة. ويرى «جوليوس يورتنوى» أنه فى الوقت التى كانت الكنيسة فيه تحارب المؤثرات الدنيوية التى كان يعتقد أنها تؤدى إلى إفساد شعائر العبادة، كانت الرغبة فى التعبير العقلى والفنى تزداد انتشارًا؛ وتتجاوز الباحثين والفنانين إلى عامة الناس.
كتب الفيلسوف الفرنسى «ميشيل دى مونتاني» عن أسفاره فى إيطاليا آنذاك، فقال: «لقد دُهشت إذ رأيت الفلاحين يمسكون العود فى أيديهم، وإلى جانبهم الرعاة ينشدون أشعارًا يحفظونها عن ظهر قلب. وهذا أمر يمكن أن يراه المرء فى جميع أنحاء إيطاليا». وقد ازدهرت فرق العازفين والمغنين فى أرجاء أوروبا فى القرن السادس عشر، وأصبحت الآلات الموسيقية من الكماليات البهيجة التى يحرص الناس العاديون على اقتنائها فى بيوتهم؛ وانتشرت الاجتماعات الموسيقية الارتجالية، وألم العامة بأسرار الموسيقى.
وقد عكف زعماء الفنانين – فى عصر النهضة – على البحث بطريقة علمية عن آثار الحضارة الكلاسيكية، وقاموا بفحصها وقياسها حتى يمكن الاستعانة بأصولها فى الإبداع الفني؛ وبنوا نظرياتهم الجمالية على كتابات الفلاسفة من العصور القديمة وفلاسفة العصر اليونانى الروماني. واختاروا –نموذجًا لهم – التراجيديا اليونانية، إذ اعتقدوا أنها تعتمد فى الأداء على الغناء من البداية إلى النهاية. لقد أراد الموسيقى – فى هذا العصر – أن يحاكى الشاعر والمغنى اليوناني، الذى تحدث عنه «أفلاطون» حيث ذكر أن الشاعر المغنى كان يؤلف ألحانه على إيقاع النص الشعرى ووزنه؛ وهذا عين ما فعله موسيقى عصر النهضة الذى تحمس لإيجاد توازن مثالى بين النص الكلامى وبين اللحن الموسيقي. وهكذا أعلن «هيرمان فنك» – من الفنانين العظماء فى هذا العصر – فى كتابه: ممارسة الموسيقى أنه «إذا كان الموسيقيون القدماء قد برعوا فى معالجة الأساليب القياسية المعقدة، فإن الموسيقيين الأحدث عهدًا قد فاقوهم فى جمال اللحن؛ وهم حريصون كل الحرص على أن يوائموا بين الأنغام وألفاظ النص حتى يعبروا عن معناها وروحها بأعظم قدر من الوضوح».
إن ما سعى إلى تحقيقه فنانو عصر النهضة هو إحياء موسيقى العصور القديمة، وإن كان الافتقار إلى آثار هذه الموسيقى قد دفعهم إلى الظن بأن الأبحاث النظرية فيها الكفاية. ومع هذا قد استقر معنى واحد وهو الاعتقاد بما كان للنص من أهمية فى موسيقى القدامى واتباع موسيقاهم أوزان الكلمات وإيقاعها. ولعل أوضح مثال على ذلك الموسيقى الفرنسية التى خضعت للكلمة وما يتبعها من خضوع للفكر والعقل. تشبث الفرنسيون بالأغنية، وطالبوا دائمًا بالموسيقى التى تطرب الأذن والكلمات التى تشغل العقل.
وفى فينيسيا رسم الموسيقى والباحث النظرى «جوزيفو زارلينو» صورة مثالية لموسيقى العالم القديم، ويفخر بما صنعه عصره من أجل بعثها من جديد؛ ويرفض صراحة موسيقى العصور الوسطى التى تبدو – فى نظره – ضربًا من السفسطة الفنية، وهو ينظر إلى الموسيقى بوصفها محاكاة للطبيعة، ويحاول أن يستخلص تعاليمه من القانون الطبيعي. ويُعّدُ أول من عالج الهارمونية من خلال فكرة «الثلاث»، أى التآلف الهارمونى المكون من ثلاث نغمات، وأول من أدرك أهمية التضاد الأساسى بين الديوان الكبير والديوان الصغير. أما تلميذه «نيكولا فيتشتينو» فكان أكثر تحمسًا من أستاذه، حيث حاول إقامة فلسفة جمالية للموسيقى تربط بين أساليب عصر النهضة وبين الموسيقى الدنيوية؛ فالموسيقى الدينية – فى رأيه – ينبغى أن تكون مبنية على نص ديني، وأن تكون فى ألحانها ذاتها مشجعة على التقوى والعبادة.