السبت 27 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

الفن والعلم (2)

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
ينظر البعض إلى الفن والعلم على أنهما حقلان منفصلان تمامًا، فيذهب هذا البعض إلى القول بأن العالِم يتخذ موقفًا موضوعيًا إزاء الظواهر التى يبحثها، وعلى العكس من ذلك يقف الفنان موقفًا منحازًا. فالعالِم ينظر إلى الظواهر كلها نظرة متساوية، بمعنى أنه لا يقحم تفضيلاته الشخصية وميوله الذاتية عند بحثه عن حقيقة الأشياء. فالبحث عن الحقيقة يستلزم وضع الظواهر على قدم المساواة، فى صف أفقى لا تعلو فيه واحدة على الأخرى إلا بقدر ما تفيد فى الكشف عن القانون العام الذى يحكمها. أما الفنان فهو فى معالجته لموضوعاته لا يضعها أبدًا على قدم المساواة، بل إنها تتخذ أمامه ترتيبًا رأسيًا، ويكون لبعضها عنده أفضلية مؤكدة على البعض الآخر. وهكذا يحل (التفضيل) فى كل سعى إلى الجمال الفني، محل (الموضوعية)، وتختفى المساواة بين الظواهر لأن الفنان بطبيعته منحاز، بل إن متذوق الجمال ذاته يتخذ من (التفضيل) معيارًا أساسيًا، فهو لا يقيس الأعمال الفنية بالمقاييس المتعارف عليها فى العلم، وإنما يضعها فى ترتيب هرمي، ولا يقبل أى اعتراض على هذا الترتيب، لأن الأذواق لا مقياس لها. وما يفضله الواحد قد لا يكون مفضلًا عند الآخر، دون أن يكون لأْى منهما الحق فى أن يفرض تفضيلاته الخاصة على الآخر.
غير أن هناك من لا يأخذ بهذه الوجهة من النظر، ويرى أن الفارق الأساسى بين الموضوع الجمالى والموضوع العلمى هو أن الأول منهما موضوع «مُبْدَع» أو «مخلوق» Created Object، فى حين أن الثانى منهما موضوع «مُعْطَى» Given فى عالم التجربة. ولكن الفنان قد لا يجد أدنى صعوبة فى القول بأن موضوعه هو الآخر لا يخلو من «موضوعية»: لأن الواقعة التى يخلقها أو يبدعها إنما هى «المقابل الموضوعي» للعاطفة أو الانفعال أو الفكرة أو الحدس أو الحالة النفسية، فهى بمثابة تحقق عينى لحالة من حالات الشعور. ومعنى هذا أن المهمة الكبرى التى تقع على عاتق الفنان إنما هى العمل على تطهير معانيه وتوضيح أفكاره وتنقية حدوسه بحيث يقدم لنا رموزًا دقيقة مضبوطة. أو ربما كان الأدنى إلى الصواب أن يقال إن الموضوع الذى يخلقه الفنان والوعى الموجود لديه عن هذا الموضوع إنما هما شىء واحد، بمعنى أن هذا الموضوع لم يظهر أولًا فى الشعور، ثم خرج بعد ذلك إلى عالَم الوجود، بل هو قد نما وتطور فأصبح حالة شعورية بمجرد ما تشكل على صورة فنية. ولا شك أن ما يعمل على نضج الموضوع الفنى إنما هو إحساس الفنان بالموقف أو السياق أو البناء، ولكن المهم أن الموضوع بمجرد ما يتحقق فإنه يستحيل إلى واقعة ملموسة قد عملت على خلقها إرادة الفنان. وليست «واقعية» الفن – بهذا المعنى – سوى مجرد إشارة إلى تلك الموضوعات التى نمت وتطورت على هذا النحو فى الوعى أو الشعور، فأصبحت بمثابة حقائق عينية ماثلة فى صميم التجربة.
إن قيام العالِم بفحص موضوعات بحثه وتحليلها إلى عناصرها الأولية يؤدى إلى فقدها لطابعها الأصلي، ويصبح الكل المتماسك مجموعة من العناصر المفككة. غير أن هذا التحليل والتفكيك شىء لابد منه لكى يتمكن العالِم من فهم الظواهر المعقدة المتشابكة، إذ إن تحويل الشيء المعقد إلى بسائطه هو الذى يتيح معرفة تركيبه بدقة، والوصول إلى القانون المتحكم فيه، وربما كانت هذه الصفة هى أكثر الصفات تمييزًا للحقيقة العلمية عن الجمال الفني، ذلك لأن الفنان لا يعمد أبدًا إلى التحليل، وإنما الفن – قبل كل شىء– خبرة و(تجربة)، وفى هذه التجربة الفنية لا نتذوق الجمال إلا إذا تركنا أنفسنا نستمتع بالعمل الفنى دون تحليل أو تشريح. معنى هذا أن التحليل العلمى يؤدى إلى تشويه التجربة وضياع مذاقها المميز. ولكى تستمتع بالجمال الفنى حقًا ينبغى أن تترك هذا الجمال يسرى خلالك ويؤثر فى أعماقك ويغمرك من جميع الجوانب، وينبغى أن تستغرق فى تأمله وفى تذوقه استغراقًا تامًا.
إن الفرق الحاسم بين الفن والعلم هو أن العلم يستخدم على الدوام تصورات لكى يصف الجوانب المطردة فى الطبيعة المادية، على حين أن الفن لا يعتمد أساسًا على التصورات (صحيح أن التصورات تُسْتَخدم فى الأدب، ولكنها حتى فى هذه الحالة ليست هى الوسيلة الرئيسية للتعبير عن الحقيقة). فالعمل الفنى لا يصدر تأكيدًا مثل: «العالَم خير فى أساسه»، ولكن من الممكن أن يعبر الفنان عن ذلك بمعالجته لموضوع فردى وعيني. وبالمثل فإن المصور يقدم الكائنات البشرية على نحو من شأنه تأكيد تلك السمات البشرية العامة التى تهمه. هذه «الكليات» النفسية تُعْرَض بطريقة تصويرية عينية لا بواسطة التصورات. والفن، على خلاف العلم يقدم على الدوام تفسيرًا للواقع يربط بينه وبين الإنسان بوصفه فاعلًا معياريًا هادفًا. وهذا يعنى أن الفن «تقويمي» مثلما هو «واقعي». فهو يهتم بدلالة موضوعه بالنسبة إلى أهداف البشر ومثلهم العليا. ومن هنا فإن الفن يصدر حكمًا معياريًا ما على ما يصوره. أما العلم فإنه، حتى لو تناول القيم البشرية بالبحث، يبحثها بوصفها وقائع موضوعية فحسب.
أما عن قيمة المعرفة العلمية التى تبين لنا الأسباب وارتباطها بالمسببات والعلاقات بين الموضوعات فقد وضح لنا أن العالِم يضع القوانين، أما الفنان فيكتفى بأن يقدم معانى الأشياء. وينتهى العالِم إلى «قوانين»، أما الفنان فينتهى إلى «قيم» Values. ومن الواضح أننا نستفيد بتفسير العالِم، لكن ما الذى نجنيه من المعرفة الفنية أو التأمل الفني؟ الواقع أننا ننظر دائمًا إلى العالَم والموجودات نظرة نفعية عملية، ولكن بالإضافة إلى ذلك ينبغى لنا أن ننظر إلى العالـَم والموجودات نظرة استمتاع بوجودها فى حد ذاتها. ولن تكون حياتنا كاملة إذا ظل كل شىء بالنسبة لنا مجرد أداة، بل لا تستحق الحياة أن نحياها إن لم تتخللها فترات يركن فيها العقل إلى السكون، ولهذا يأتى الدين والفلسفة للبحث عن هذا التأمل السكونى للوجود بأكمله، أما محب الجمال فيبحث عن السكون فى تأمل موضوع واحد يعزله عن باقى موضوعات العالَم ولا يجعله أداة لشيء آخر غير ذاته، وبذلك يتحول إلى غاية فى ذاته.
وبالفن لا تتحول الشجرة إلى كتلة خشب نستمد منها منفعة معينة، ولا تتحول مساقط المياه إلى مولدات للقوى الكهربائية، وكما ينبغى أن نربى فى الإنسان القدرة العلمية بالتربية والتعليم فكذلك أيضًا ينبغى أن نربى فى الفرد الإنسانى القدرة على التذوق الجمالى منذ الصغر والنظرة الجمالية للأشياء.