الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

الموسيقى في العصور الوسطى

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
«كثيرًا ما أعترف بالقيمة العظيمة للأناشيد الكنسية عندما أتذكر الدموع التى ذرفتها لدى سماعى هذه الأناشيد فى بداية عهد استعادتى للإيمان. نعم فى ذلك العهد بالذات، عندما كان ما يستثيرنى هو معانى الغناء لا الغناء ذاته، وبخاصِة عندما يقوم بالأداء صوت واضح قادر على اختيار النقلات المناسبة من طبقة لأخرى. عندئذ لا يكون أمامى مفر سوى الاعتراف بالخير العظيم الذى يجلبه هذا الفن. وهكذا أتأرجح بين مخاطر اللذة، وعادة مفيدة أقرها العُرف.. ومع هذا أعترف مرة أخرى - بعد أن أدركت أن ما تأثرت به كان الصوت أكثر من الترانيم - بأننى قد أسأت إساءة بالغة، وأتمنى لو أننى لم أستمع إلى الموسيقى».
تُصور هذه الكلمات من اعترافات «القديس أوغسطين»، المشكلات الأخلاقية التى واجهتها العقيدة الجديدة التى صرح بها أحد آباء الكنيسة المرموقين فى المذاهب الفلسفية القديمة، غير أنها تمثل - كما رأى بول هنرى لانج - مشكلة موسيقى الكنيسة ذاتها التى تباينت فى العصور الوسطى أشد التباين مع المثل العليا القديمة؛ ولكنها عادت للظهور مرارًا خلال القرون العديدة التى أعقبت ذلك.
لقد ظل تاريخ الموسيقى أكثر من ألف عام مرادفًا لتاريخ الموسيقى فى الكنيسة المسيحية؛ حيث استطاعت الكنيسة أن تحافظ على بقايا الفن الإغريقى القديم، وأن تنتقى منه العناصر التى قدر لها أن تتطور - فيما بعد - إلى صورة الموسيقى الغربية الحديثة. وقد خضعت أغلب الفنون خلال هذه الفترة لسلطان الكنيسة التى فرضت نفوذها على جميع المظاهر السياسية والاجتماعية والحضارية. ورغم ما شكلته الكنيسة من عداءٍ مستمر لأغلب الفنون؛ فإن الموسيقى كانت هى الفن الوحيد المسموح به فى إقامة الشعائر الدينية المسيحية منذ البداية، وعندما ازدادت الكنيسة قوة، صارت قواعدها الموسيقية أوامر مطلقة؛ وأن جميع إشارات آباء الكنيسة إلى الموسيقى تهدف - بلا استثناء - إلى تحديد أفضل طريقة لاستخدامها من أجل تحويل الوثنيين إلى زمرة المسيحيين.
معنى هذا أنه فى بداية الأمر لم تهتم الكنيسة بالفنون والآداب؛ لأنها رأت فيهما استمرارًا للحضارة الوثنية. ولم يكن إعجاب الفلاسفة اليونانيين بالموسيقى من أجل الموسيقى ذاتها أو جمالها، بل من أجل قيمتها الأخلاقية والتربوية؛ لذلك لا نتوقع أن تتبع الكنيسة المسيحية النظرة إلى الفن نفسها. وإذا كانت الفلسفة القديمة فى الحياة - بأغراضها الدنيوية - قد اعترفت بالتأثير الحسى للموسيقى، وحاولت تبرير وجودها بالانتفاع بخصائصها الأخلاقية، فما الذى نتوقعه من المسيحية التى تعتبر الحياة مجرد مرحلة تمهيدية للآخرة؟ إنها لن تستطيع قبول الفن والسماح به، إلا إذا ساعد الإنسان على بلوغ هذه الغاية العلوية.
كانت الموسيقى تحيط بآباء الكنيسة من كل جانب، وكان عليهم الاعتراف بوجودها. وكلما ازداد اعترافهم بتأثير الموسيقى على النفس الإنسانية، ازداد وضوح الازدواج الذى عبرت عنه العبارات التى صرح بها «القديس أوغسطين» سلفًا. وكان من الضرورى كبح جماح هذا التأثير القوى وتوجيهه لغايات نافعة، كذلك لا بد من محاربة تأثيرها الحسى الشهواني. لقد رأى مفكرو العصر الكلاسيكى - فى الماضى - أن واجب الدولة يحتم عليها التدخل فى غاية الموسيقى وطريقة تأليفها، لتجنب أى آثار ضارة. واضطلعت الكنيسة بهذا الدور، ورأت أنه لا يكون للموسيقى قيمة كبرى بوصفها فنًا فى ذاته؛ والمبرر الوحيد لوجود الموسيقى هو الخدمة التى تؤديها للكنيسة، مثل: «إصلاح المؤمنين» و«المساعدة على تدعيم إيمانهم» و«إثراء وجدانهم». ولتحقيق هذه الغاية يجب أن تفسح الألحان الطريق للكلمات.
وقد أشاد الكتاب المقدس بفضائل الموسيقى، واتفق - فى هذه النقطة - كل من الإصحاح القديم والعهد الجديد. وهذه هى العذراء مريم تنطلق تسبيحًا بحمد الله فى أغانٍ تهليلية، وهى تتوقع الأحداث التى ستمر بها حتى قبل ميلاد السيد المسيح عليه السلام، الذى بشرت بميلاده أغنية ملائكية موجهة إلى كل أصحاب النية الطيبة من بنى البشر. ورنت أنغام الموسيقى فى ختام حياة السيد المسيح على الأرض، وكذلك فى العشاء الأخير عندما ترنم المسيح بتسبيحة حمد فيها الله، بالاشتراك مع حوارييه قبل ذهابه إلى جبل الزيتون: «وأما الأحد عشر تلميذًا فانطلقوا إلى الجبل حيث أمرهم يسوع. ولما رأوه سجدوا له ولكن بعضهم شكوا، فتقدم يسوع وكلمهم قائلًا: دُفع إلى كل سلطان فى السماء وعلى الأرض، فاذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمدوهم باسم الأب والابن والروح القدس. وعلموهم أن يحفظوا جميع ما أوصيتكم به، وها أنا معكم كل الأيام إلى انقضاء الدهر» (إنجيل متى ٢٨).
ويربط مؤرخو الموسيقى بين اسمى اثنين من كبار رجال الكنيسة الأولى وبين بداية الغناء البسيط، كان أولهما «القديس آمبروز» أسقف ميلانو الذى عاش قرب نهاية القرن الرابع الميلادي؛ وهو من رواد تطوير صورة الأنشودة الدينية واهتم بنشرها على نطاق شعبي. والثانى هو «جريجور الأكبر» الذى يُعّدُ من الشخصيات العظمى فى تاريخ موسيقى الكنيسة المبكرة. ولقد بلغ من شهرة «جريجور» الموسيقية، أن جعلت اسمه مرتبطًا بكل الكيان الموسيقى للكنيسة فى العصور الوسطى. وقد أسهم آباء كثيرون للكنيسة فى تطوير الأنشودة الدينية وجعلها مقبولة من حيث هى نوع من الأنواع الموسيقية، حتى أصبحت أفضل من المزامير؛ كذلك بساطة هذه الأنشودة جعلتها ملائمة للغناء الدينى الجماعي.