السبت 20 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

دفاعًا عن العقل الديني

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
تنبنى الفلسفة على قوة الفكرة التى هى نوع من الصلابة فى العرض الفكري، نوع من تقديم منظومة قابلة للاستمرار عبر الزمن بفضل قوة الإقناع. والتعبير عن هذا الاستمرار بأنه «يقاوم الزمن» تعبير دال على عنت فلسفى تعانى منه الأفكار كلها. وعلى هامش هذا الكلام يمكننا أن نقف عند لحظة قوية هى انتقال الفلاسفة من عالم القوة الذى يذكر بأهم ما ابتكره الإنسان: «الحرب» إلى أهم ما ابتكره الدين «التوبة».. أى الانتقال من ضرورة تتبع آثار القوة والدفاع عن الحصن إلى تتبع آثار الضعف والتخلص من الحصن نهائيا؛ تخلص يحقق القوة حسب برهان عكسي: قوة «الحرية» التى تضمن للعقل ألا يفترض حصنا ولا عدوًا يتقوى به ثم يفترض ضرورة حرب للدفاع عن حريته...
يؤمن العقل المسيحى بوجود فكرة الشفاعة، وينتهى المسيحى فى آخر يومه راكعا يعترف بأخطائه مؤمنًا بإمكانية التطهر منها، وينتهى دوريًا إلى غرفة الاعتراف ليتطهر نهائيًا من رعب الخطأ الذى يلاحقه. ويؤمن المسلم بسعة لا حدود لها لرحمة ربه؛ رحمة وسعت السماء والأرض تبلغ ذروتها فى الحديث القدسى «يا عبدي! إن لقيتنى بقراب الأرض خطيئةً ما لم تشرك بى لقيتك بقرابها مغفرةً».. وهو معنى تقره آيات كثيرة فى القرآن أبلغها فى هذا المعنى قوله سبحانه وتعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (الزمر: ٥٣)...
تنويعات
المتتبع لتاريخ الفلسفة أو لتاريخ العلوم سيجد الإنسان لا يفعل شيئا سوى مغادرة مغارة أفلاطون من أجل الدخول فى أخرى؛ فاليقين الذى يجده جماعة المغارة لا يلبث أن يتحول إلى شك جديد، إلى لعبة ظلال يتلبسها السؤال، إلى حاجة ملحة إلى الخروج من مغارة اليقين القائم. لتصبح المغارة المعول عليها هى المغارة النهائية التى سنئول إليها، وليست تلك التى خرج منها الإنسان الحداثى على أيام أفلاطون كما يقول هابرماس.
يرسم الدين صورة إجمالية للحياة «الدنيا» التى حدّاها يوم الميلاد ويوم الموت؛ أين يدخل الإنسان قبرا (تراها مغارة؟) تحيله على «الخارج» النهائي: أرض الله التى هى سماء، والسماء نقيض المغارة للسعة ولانكشاف الأفق وانعدام السقف. ستكون الفلسفة والعلوم بهذا المنطق مأزقًا بلا مخرج، وأبوريا مرجأة إلى غاية الموت (من منطلق عجز الفلسفة المعاصرة عن التفكير الأسكاطولوجي)، الذى قد يكون أبعد بخطوتين مما تعودنا عليه (من منطلق هستيريا البحث العلمى إزاء فكرة طول العمر والحلم القديم بالحياة الأبدية؛ وهى سماء يتحكم فيها الإنسان بدلا من سماء الله).
سوف نحتفظ فى الذهن بفكرة أن كلمة «فيلوسوفيا» قد وصلتنا فى أقدم أثر لها عن طريق أفلاطون، وأنه هو نفسه الذى وضع مصطلح «ثيولوجيا»... ولهذا الأمر دلالة كبيرة.
فى مقاربته للحياة ابتكر الإنسان - عدا الحرب المذكورة سابقا - اللغة لاختصار قطاعات واسعة من الحياة عن طريق نظام التمثيل، أنظمة للقياس من أجل تحديد طبائع الأشياء أو من أجل مقاربتها كميا أو تحقيق مقارنات مجدية بينها، وهذا ما يفسر الكثرة الفاحشة للحسابات فى التجربة الإنسانية، كثرة محيرة أحيانا إلى درجة تجعل الحساب هو الوجه الآخر للتاريخ، أو هو محط التجربة الجمالية التى كثيرا ما وضعها الإنسان فى مقابل كل تجربة أخرى كعلامة لتفوق «الإنساني» على «غير الإنساني»...
هذه الثقة فى اللغة والحساب التى ستدفع ميرلو بونتى - مثلا - إلى القول بأنه علينا تتبع إيقاعها الداخلى الصامت، وإنه علينا «رمى حبل الكلمات على الغارب، ثم ترك الكلمات تنتظم من تلقاء نفسها»، وهى ثقة بعيدة المدى. وفى مقابل ذلك سنجد أرسطو يعلن عن قلق مبكر سببه غرق الناس الكبير فى مقاربة العالم جبريا، هو الذى كان يشكو من كون الناس - والفلاسفة خاصة - لا يهتمون بلمس الأشياء ويكتفون بالحديث عن حسابات ترتبط بها وتمثلها، وهو قلق سيوافق عليه تماما الرياضى الكبير «سرينيفاسا رامانويان»، وهو يتحدث عن ضرورة دراسة الحدس الرياضى كتجربة صوفية وعرفانية فى آن واحد. وربما يقف وعى كهذا خلف تأمل المؤرخ المهم راينهارت كوزيليك، القائل إن: «التاريخ متجدد فقط فى الأحداث وتسلسلاتها، لكنه يكرر نفسه فى بنياته»، فتكفى اللغة والحسابات لفهم كل شيء.
الواقع أن هذه المقاربة «الإنسانية» للحقيقة قد أدت دوما إلى القلق، وأفضت دوما على الخيبة. فى حين يفتح الدين بابا أقل لمعانا من الفلسفة ولكنها أكثر فاعلية لدى البشر، ذلك هى باب التعالي، وباب جعل قطاعات واسعة من التجربة الإنسانية عالقة وإشكالية، بسبب تعاليها على الناسوتى وحاجتها الماسة إلى اللاهوتي. لتكون إجابات الدين - على النقص الواضح فيها - أكثر ملئا للشغف البشرى بالإجابات: الإرجاء الدينى الذى يجارى الحقيقة فى طابعها الخفى بدلا من مجاراة جنون الشرح والتفسير وإنشاء تعليقات حول الحياة كما يقال لدى ما بعد الحداثيين.
على يد أخرى للمقارنة وبطريقة الجرد السريع، يمكننا أن نقف عند وجوه التقاطع بين الدين والفلسفة فى كون الاثنين يعملان فى المشغل نفسه على المواد نفسها: العدالة، القدر، الأخلاق، الخلق، والكوسموس، العلاقات الاجتماعية، السيكولوجيا.... إلخ إلخ.
ما نشير إليه هنا هو أن غياب الدين عن الفلسفة يطرح أسئلة كثيرة، أولها هو السؤال حول مدى صحة هذه الهوة الحديثة التى لا أثر لها فى التاريخ (وربما يكون هنالك ما يناقضها أصلا)، وجميلة تلك الجملة التى افتتح بها الفيلسوف الثيولوجى الكبير «ريمى براج» مشروعه الضخم لإعادة تأهيل الخصمين اللذين نحن بصددهما هنا، فقد ذيل العنوان الحامل لكلمة «الدين» بملاحظة: «اقتربوا فهو لا يلسع». والسؤال والحال هذه يطرحه «ريمون آرون» الذى لاحظ غلو الماركسيين (المهيمنون على أيامه على الساحة الفكرية) فى مهاجمة الدين؛ فقال: «إذا كان الدين أفيونًا للشعوب فإن الماركسية أفيون النخب المثقفة».
إذا نجحنا فى تجاوز إملاءات الزمن الذى نعيش فيه؛ فإننا سنجد كبار الفلاسفة قديما إما رجال دين أو من المشتغلين بالدين أو الذين يحتل التأمل الدينى فى أعمالهم مساحة مهمة: أفلاطون، أفلوطين، ابن سينا، ابن رشد، ابن ميمون، ابن زهر، باسكال، لايبنيتز، نيتشه (ابن القس)، هايديجير، أنسيلم. القديس أوغسطين، طوما الأكويني، ديكارت، شلايرماخر، كيركجارد... إلخ.
بل إنه يصادفنا البابا جون بول الثانى، الذى كان قبل لبس عباءة البابا مدرسا للفلسفة مختصا فى الظواهرية من طراز رفيع. ثم نجد خليفته البابا «بينوا السادس عشر» أيضا فيلسوفا اشتهر برسالتى الدكتوراه والتأهيل الجامعى حول القديس أوغسطين، ثم جول بينافنتورا بالترتيب. هذا الأخير الذى اشتهر كثيرا بمناظرته مع يورجن هابرماس.
خلاصة القول
بيان العقيدة هو نفسه فعل ديكارت الشهير «كريدو» أفكر/ أعتقد... هل هو فعل يحدث داخل الدين أم داخل الفلسفة؟
الفلاسفة حاليا يقولون إن الفلسفة مجرد صياغة لغوية للعالم، والمتدينون يسمون المسيح «كلمة» الله... هل اللوغوس واقعة دينية أم فلسفية؟
نحن ننطلق دوما من التفكير صوب التسليم أى الإيمان بشيء ما، وهو أمر قد نعكسه حينما مجد فكرة مسلمًا بها أى يؤمن بها الجميع فتجعل تفكر لأجل مراجعتها عقليا... والشيء الذى سيدفع «دريدا» إلى توسيع دائرة اللفظة «ميتافيزيقا» خارج دائرة الدين، لتشكل كل المسلمات واليقينيات التى تتعالى تاريخيًا على واجب المعاينة والمراجعة. فهل هذه ممارسات دينية أم أنها فلسفية أم أن الأصح هو ردم الهوة بين الاثنتين؟