الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ثقافة

توت عنخ آمون.. "سفير ثقافي فوق العادة لمصر الخالدة"

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
منذ اكتشاف مقبرة توت عنخ آمون في عام 1922 يتفق المؤرخون وعلماء الآثار على أنه "الاكتشاف الأثري الأكثر أهمية في القرن العشرين" غير أن هذا الملك المصري الشاب الذي رحل عن الحياة الدنيا منذ آلاف السنين، ويستقبل اليوم "السبت" في معرضه جماهير الزائرين في باريس هو بحق "سفير ثقافي فوق العادة لمصر الخالدة". 
والمعرض الذي افتتح رسميا أمس الأول "الخميس" في باريس يفتح أبوابه للجمهور اعتبارا من اليوم فيما تتوالى الأنباء حول الإقبال منقطع النظير لحجز تذاكر الدخول وتتزين "مدينة النور بصور الملك المصري الشاب" الذي لا تعد زيارته الحالية للعاصمة الفرنسية هي الأولى، حيث سبق وأن زارها قبل أكثر من نصف قرن وإن كان الفرنسيون كما يبدو في حالة شوق عارم لزيارته الجديدة وعطاياه السخية بـ60 قطعة أثرية لم تعرض من قبل خارج القاهرة.
ولن يكون من الغريب في سياق الزيارة الجديدة للملك المصري الشاب لباريس، والتي تحظى باهتمام بالغ في الصحافة ووسائل الإعلام الفرنسية والمنابر الثقافية في الغرب ككل أن تظهر في سياق الولع الفرنسي بتوت عنخ آمون مبتكرات دالة مثلما حدث في معرضه الذي أقيم في عام 1967 بالعاصمة الفرنسية مثل "تسريحة الفرعون" و"شيكولاتة توت عنخ آمون" و"كارتون توت" الذي عرض على شاشات التلفزيون للأطفال، فضلا عن ابتكارات تحمل اسم الفرعون الذهبي حتى في مجال الادخار.
ويضم معرض "توت عنخ آمون.. كنوز الفرعون" أكثر من 150 قطعة "للفرعون الذهبي" الذي يداعب دوما مخيلة العالم فيما كانت مدينة الأقصر قد شهدت في نهاية شهر يناير الماضي احتفالا بانتهاء أعمال ترميم "مقبرة الملك الشاب توت عنخ آمون"، التي استمرت لأكثر من عقد حيث عكفت بعثة من معهد "بول جيتي الأمريكي" على أعمال الترميم بإشراف وزارة الآثار المصرية.
ومن بين ما يتضمنه المعرض الباريسي من مقتنيات "الملك المصري الشاب في الأسرة الـ 18" توابيت مزينة بالأحجار الكريمة، فضلا عن مجموعة من الحلي ذات التفاصيل الفنية الدقيقة مع المرقد الجنائزي المذهب وتمثال آمون الحارس البار للمقبرة.
ومعرض توت عنخ آمون الذي يستضيفه "مركز جراند هال دي لافيليت الثقافي في باريس" حتى منتصف شهر سبتمبر القادم يشكل "درة التاج في احتفالات "عام مصر-فرنسا" التي انطلقت في مطلع العام الحالي لتكتب صفحة جديدة ومضيئة في قصة العلاقات المصرية-الفرنسية.
وكانت وزيرة الثقافة الدكتورة إيناس عبدالدايم، قد أوضحت أن هذه الفعاليات الاحتفالية لعام مصر-فرنسا والتي ستمتد على مدى عام 2019 ستقام في العديد من المدن الفرنسية جنبا إلى جنب مع المدن المصرية، فيما نوه وزير الآثار الدكتور خالد العناني بقوة ورسوخ التعاون بين البلدين الصديقين في مجال الآثار، موضحا أن هناك الآن نحو 40 بعثة أثرية فرنسية في ربوع مصر.
وقام العناني ووزير الثقافة الفرنسي فرانك ريستيير بافتتاح معرض توت عنخ آمون في باريس أمس الأول، وشهد مراسم الافتتاح الرسمي سفير مصر لدى فرنسا إيهاب بدوي، فيما لاحظ وزير الآثار المصري أن الآثار المصرية مكانة عميقة في قلوب الفرنسيين.
وعندما يحل منتصف شهر سبتمبر القادم ويحين وقت وداع الفرعون الذهبي لأهل باريس سيكون الملك المصري الشاب توت عنخ آمون على موعد مع جولات جديدة في الغرب تبدأ بزيارة للعاصمة البريطانية لندن، فيما كان الإنجليزي هوارد كارتر هو الذي عرفه العالم كصاحب اكتشاف توت عنخ آمون في شهر نوفمبر عام 1922 ووصف هذا الإنجاز الذي جاء بعد نحو قرن كامل من اكتشاف الفرنسي شامبليون لرموز اللغة الهيروغليفية "بالاكتشاف الأكثر اثارة في مجال علم المصريات خلال القرن العشرين".
والإنجليزي هوارد كارتر الذي ولد عام 1873 وقضى في عام 1939 كان يمتهن التنقيب عن الآثار ويواجه نفقاته برسم لوحات بالألوان المائية يبيعها للسائحين، فيما يقول الكاتب والصحفي الفرنسي روبير سوليه إنه كان على وشك التخلي عن التنقيب في وادي الملوك بالأقصر حين أبرز عماله سلما من 13 درجة يفضي إلى مقبرة مغلقة.
وإذا كان من الشائع أن الأثري الإنجليزي هوارد كارتر هو مكتشف مقبرة توت عنخ آمون عام 1922 في وادي الملوك، فإن عالم المصريات زاهي حواس الذي حضر افتتاح المعرض الحالي للفرعون الذهبي في باريس قال في كتاب صدر بعنوان "أسطورة توت عنخ آمون" أن طفلا مصريا يدعى حسين عبد الرسول كان يبلغ من العمر 9 سنوات هو الذي دل كارتر على مدخل المقبرة.
كانت هذه المقبرة المغلقة هي "المقر الأخير للفرعون المصري الشاب توت عنخ آمون" وعند الولوج للمقبرة في السادس والعشرين من نوفمبر عام 1922 كانت هناك منقولات جنائزية خرافية مودعة منذ 3200 عام.
وسرى النبأ في العالم كله فيما جمعت أعداد لا حصر لها من القطع الثمينة خلال أربع سنوات من عمليات رفع الركام، وأخيرا تم التوصل إلى المومياء الملكية التي أصيب الجميع أمامها بالذهول والانبهار: ثلاثة توابيت معشقة الواحد في الآخر ونعش من الذهب الخالص المنحوت والمنقوش وقناع جنائزي من الذهب الخالص أيضا ومرصع بحجر اللازورد.
ووفقا للكتابات التاريخية المتعددة التي تناولت هذا الاكتشاف البالغ الأهمية في التاريخ الإنساني فقد أمكن الحصول من "اكتشاف كارتر على أكثر من ألفي قطعة أثرية بما في ذلك عقود وأساور وأوعية وعصى وخزائن وتماثيل بل وحتى عربات الملك".
وعلى أثر اكتشاف مقبرة توت عنخ آمون، اشتعل الهوس بكل ما هو مصري في بلدان الغرب وخاصة في فرنسا وتميزت "سنوات توت عنخ آمون بجميع أنواع المبتكرات والموضات المستلهمة من مصر وبخاصة في باريس، حيث ظهر نمط جديد من الملابس المصرية قام ملوك الأزياء الراقية في العاصمة الفرنسية بعرضه في خريف عام 1923".
وكما يقول الكاتب روبير سوليه فقد قام المصمم "كارتييه" بابتكار علبة أدوات زينة للنساء أسماها "توت عنخ آمون" مطلية بميناء وعليها رسوم ملونة ومرصعة بالذهب والعاج والعقيق والياقوت الأزرق والزمرد الأخضر والماس.
وإذا كان الذي نسب له هذا الاكتشاف الأثري والتاريخي المبهر هو رجل إنجليزي، فإن الذي أسندت إليه حينئذ مهمة الحفاظ على تلك المقتنيات التي لا تقدر بثمن كان الفرنسي بيير لاكو بحكم عمله كمدير لمصلحة الآثار المصرية، وكان عليه الإشراف على نقل تلك الآثار من الأقصر إلى القاهرة كما يتعين عليه داخل المتحف المصري "تحليل كل قطعة وتسجيلها وتصويرها". 
وفيما يتضمن المعرض الباريسي الحالي لتوت عنخ آمون مزهريات مزخرفة بمفردات اللغة الهيروغليفية فإن العالم الفرنسي جان فرانسوا شامبليون هو الذي تمكن في الرابع عشر من سبتمبر عام 1822 من فك شفرة وغموض هذه اللغة المصرية القديمة.
كان شامبليون حينئذ ابن الـ 31 عاما وعكف هذا العالم الفرنسي الشاب لسنوات على دراسة اللغات القديمة، وكانت قدرته على العمل عجيبة فهو مؤرخ وعالم لغات ودارس للجماليات "ولم تكن صيحة وجدتها التي أطلقها عندما نجح في فك رموز الهيروغليفية إلا ثمرة للجهد والمثابرة".
وتحفظ الذاكرة التاريخية اسم فرنسي آخر هو "اوجوست مارييت" الذي قام بتأسيس مصلحة الآثار المصرية وإنشاء المتحف المصري الذي افتتح للجمهور عام 1863 وكان من كبار المدافعين عن التراث المصري، فضلا عن عالم المصريات جاستون ماسبيرو الذي خلف مارييت كمدير لمصلحة الآثار المصرية وكأمين لمتحف بولاق اعتبارا من الثامن عشر من فبراير عام 1881.
وإذ أعرب وزير الثقافة الفرنسي فرانك ريستيير عن إعجابه البالغ بالقطع المعروضة في معرض توت عنخ آمون الذي يستقبل الجمهور اليوم في باريس ووصف هذا المعرض بأنه يعكس مستوى التعاون المشترك بين بلاده ومصر، فقد رأى مثقفون فرنسيون مثل الكاتب روبير سوليه أن إقامة معرض توت عنخ آمون في باريس عام 1967 كان دالا على استعادة العلاقات المصرية-الفرنسية قوتها وزخمها الثقافي.
ويعيد سوليه للأذهان أن هذا المعرض افتتحه اثنان من أشهر وزراء الثقافة في بلادهما، وهما المصري ثروت عكاشة والفرنسي أندريه مالرو، مضيفا أنه كان من المقرر لزيارة الرئيس الفرنسي شارل ديجول للمعرض أن تستغرق 20 دقيقة فإذا بها تمتد إلى ساعة ونصف الساعة.
وواقع الحال أن أي معرض في باريس ككل لم يشهد من قبل مثل هذا العدد الغفير الذي زار معرض توت عنخ آمون، كما يقول روبير سوليه وهو ماتكرر مرة أخرى في العام ذاته بإقامة معرض رمسيس الثاني، فيما كانت "فرقة من الحرس الجمهوري الفرنسي في استقبال رمسيس الثاني بمطار بورجيه في باريس".
ويبدو أن الظاهرة تتجدد الآن في باريس مع الزيارة الجديدة التي يقوم بها توت عنخ آمون وعلى نحو يعيد ذكريات حميمة عندما كانت الجماهير الغفيرة تبحث بكل السبل عن تذاكر دخول معرض الفرعون الذهبي الذي استمر حينئذ ستة شهور ونصف الشهر. 
وقد تكون "الزيارات الجديدة للتاريخ" مطلوبة حتى لعصور موغلة في القدم مثلما يفعل الباحث والأثري المصري الكبير الدكتور زاهي حواس الذي رأى أن المعرض الحالي للفرعون الذهبي في باريس يسهم بقوة في الدعاية للسياحة المصرية.
ولعل معرض توت عنخ آمون الحالي في باريس يعبر عن جوهر تقرير أصدرته منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية وهي كيان اقتصادي من الكيانات المهمة في عالمنا المعاصر، وأكدت فيه أن "السياحة الثقافية بمقدورها القيام بدور مهم للغاية في التنمية بمناطق متعددة من العالم" فيما أمست السياحة الثقافية في العالم المعاصر قائمة على التفكير بصورة غير تقليدية وإنتاج أفكار جديدة بعيدا عن النمطية.
وجاء كتاب زاهي حواس: "أسطورة توت عنخ آمون" حافلا بالحقائق الجديدة والتفاصيل المشوقة عن هذا الملك المصري الشاب والمثير للجدل فيما يطرح حواس في كتابه الذي تولى صوره ولوحاته البديعة الفنان والمصور الإيطالي ساندرو فانيني فرضية جديدة فحواها أن توت عنخ آمون لم يقتل وإنما سقط من عجلته الحربية أثناء رحلة صيد في صحراء منف.
وواقع الحال أن توت عنخ آمون أثار دوما اهتماما ثقافيا لدى باحثين في الغرب، وخاصة فيما يتعلق بظروف وملابسات وفاته التي يقدم زاهي حواس فرضية جديدة بشأنها في كتابه الذي تطرق فيه أيضا لشخصية "سنجم" المعلم الخاص للملك توت عنخ آمون.
وتوقف الباحث البريطاني توبى ويلكينسون فى كتاب حول مصر القديمة مطولا عند ملابسات ما حدث قبل أكثر من ثلاثة آلاف عام عند الرحيل المبكر للملك الشاب توت عنخ آمون، بينما يشكل التاريخ المصري القديم مصدر المهم لكثير من الأدباء في الداخل والخارج.
وعندما أعلنت الأكاديمية السويدية حيثيات منح جائزة نوبل فى الآداب عام 1988 للأديب المصرى نجيب محفوظ فإنها أعادت للأذهان أن بواكير أعمال نجيب محفوظ تركزت فى البيئة الفرعونية لمصر القديمة. 
وعميد الأدب العربي الدكتور طه حسين أشار في كتابه "مستقبل الثقافة في مصر" إلى أن "الحضارة المصرية القديمة تشكل جذور الحضارة الغربية" أو بشيء من التصرف فإن الحضارة المصرية القديمة تشكل جذرا رئيسا للحداثة التي تقود العالم اليوم.
وهاهي كيرتي مينون غاندي حفيدة المهاتما غاندي التي تعيش بجنوب أفريقيا تتحدث عن الحضارة المصرية القديمة "التي أهدت العالم أجمع الحلم والسعادة والثقافة".
وإذا كانت كوريا الجنوبية ضمن مقاصد الجولة الطويلة للملك المصري الشاب توت عنخ آمون، والتي تشمل أستراليا وكندا واليابان بينما زار بالفعل لوس أنجلوس قبل مجيئه لباريس فإن الشاعر الكوري الجنوبي كو اون الذي يعد من أشهر شعراء هذا البلد "يبدو مفتونا بسحر توت عنخ آمون". 
وهذا الشاعر الكوري الجنوبي ولد عام 1933 في جونسان بمقاطعة تشولا الشمالية كان قد توقف ليتأمل مليا مغزى خبر تناهى لسمعه عن العثور على أكاليل زهور على رأس الفرعون الشاب توت عنخ آمون الذي رحل قبل أكثر من 3300 عام.
وذهب كو اون صاحب المجموعة الشهرية "أزهار اللحظة" إلى أن "طقس تقديم هذه الزهور "هو لب الشعر" معيدا للأذهان أنه منذ الأزل كان الناس يتلون صلواتهم بقلوب ملؤها الشعر على موتاهم لكي يبعثوا في العالم الآخر "عالما من الأزهار".
ويتجاوز عدد الكتب التي أصدرها كو اون الـ 150 كتابا تتنوع ما بين دواوين لقصائده وروايات وسيرة ذاتية وطروحات ومقالات نقدية، فيما أضحى اسمه ضمن الأسماء التي تتردد كل عام كمرشحين لجائزة نوبل في الآداب.
وسحر توت عنخ آمون الهم الوزير والمثقف الفرنسي الكبير أندريه مالرو ليقول قبل أكثر من نصف قرن أثناء افتتاح معرض هذا الملك المصري الشاب في باريس: "أن ما بحثت عنه مصر في الموت هو تحديدا القضاء على الموت.. أنني باسم فرنسا أشكر مصر التي كانت أول من ابتكر الخلود"، واليوم تتجدد ملحمة الخلود المصري مع سفيرنا الثقافي في عاصمة النور.. يا لها من ملحمة وياله من نور وياله من سفير.