الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

مسامرات علي مبارك وآليات النهضة المصرية الحديثة

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
جاء فى الأثر أن الشدائد مصنع الرجال، وأن العثرات والانكسارات هى الآتون الذى تختبر فيه العزائم والقوى المتأهبة لتحقيق الانتصارات، وإذا ما أردنا التحقق من تلك الأقوال واحتكمنا إلى تجارب المناضلين وقادة الفكر والمصلحين فسوف ندرك عشرات الأمثلة، وأقربها إلى ذاكرتنا تلك المحنة التى ابتلى بها رفاعة الطهطاوى أثناء نفيه فى السودان، فقد أوضحنا - فى مقالات سابقة – أن عبقريته وقوة عزيمته وأصالة معدنه وصدق إيمانه برسالته قد حول محنته إلى منحة تجلت فى مصنفه «وقائع الأفلاك»، وها نحن نقدم برهانًا ثانيًا على صدق ما قدمناه، ألا وهو كتاب «علم الدين» لأبى التعليم المصرى الحديث على مبارك (١٨٢٣ - ١٨٩٣)، ذلك الذى لم يقعده الاستبعاد ولم يقصه العزل ولم يثنه الاضطهاد عن إكمال رسالته التربوية التنويرية، فقد عزله محمد سعيد باشا (١٨٢٢ – ١٨٦٣) والى مصر من نظارة المهندسخانة عام ١٨٥٤، وأرسله إلى ميدان القتال فى حرب لا ناقة لمصر فيها ولا بعير (أى حرب القرم بين الدولة العثمانية وروسيا القيصرية).
وتشهد الواقعات أن سعيد باشا لم يرسله إلى القسطنطينية ليستفيد بعبقريته الهندسية فى الحروب أو لحنكته فى المفاوضات السياسية أو لبناء مستشفى عسكرى بالجهود الذاتية، فكل ذلك لم يكن متوقعًا منه رغم حدوثه، بل إن الهدف الرئيسى هو استبعاد على مبارك من المسرح السياسى وإيقاف عجلة النهضة التى كان يقودها صوب إصلاح التعليم أو إن شئت قل التخطيط العلمى لتنظيم المدارس فى مصر.
فعلى الرغم من تعاطف سعيد باشا مع الشعب المصرى إلا أنه لم يكن متحمسًا لنشر التعليم أو التوسع فى ميدان التثقيف والتنوير من جهة، ولم يكن راغبًا فى اشراك على مبارك فى مشروعاته الهندسية بداية من مشروع حفر قناة السويس إلى شق الترع وما إلى ذلك من إصلاحات، وكان يفضل عليه رفاعة الطهطاوى من جهة أخرى.
وقد قاسى على مبارك ألوانًا شتى من العوز والوشايات والدسائس التى كادت تقضى عليه، وقد أغلقت أمامه جل أبواب الرزق، ولاسيما بعد رفده من وظيفته وكثرة ديونه وتنكر الرفقاء والأصدقاء وجحدهم لصحبته، وخلال هذه الفترة الممتدة من ١٨٥٤ إلى ١٨٦٤ لم تصرفه تلك السنوات العجاف عن طموحه، ولم تدفعه إلى الكفر برسالته التنويرية فراح يكتب بمداد قلم متفائل، ذلك الكتاب الذى نحن بصدده راغبًا فى تنقية القلوب وتغذية العقول وترقية الأذواق وتوعية الأذهان وتقويم العوائد والمعتقدات، نعم كل ذلك الطموح بدا واضحًا خلال مائة وخمس وعشرين مسامرة حواها كتاب «علم الدين» الذى تجاوز عدد صفحاته ١٤٠٠ صفحة، فعلى الرغم من أفول نجمه وابتعاده عن المسرح السياسى ودواوين الحكومة والوظائف العمومية، إلا أن حبه لمصر ومقابلته الشدائد بالصبر والجلد قد مكنه من الصعود ثانية من جب الإهمال والتهميش إلى قمة الشهرة والمجد، فقد اصطفاه الخديو إسماعيل (١٨٣٠ - ١٨٩٥) لمجلسه الاستشاري، فعهد إليه بالكثير من الإصلاحات والمشروعات بداية من القناطر الخيرية إلى السكك الحديدية ثم نظارة المعارف والتخطيط لمعظم مشروعات الدولة والإشراف عليها.
والذى يعنينا فى هذا السياق أمرين: أولهما كيفية تفعيل قانون التحدى والاستجابة (أى تحدى العثرات والنكبات والأزمات وبذل الجهد لإقناع الرأى العام القائد والتابع بمشروعه وأحقيته فى شغل مكانة الصدارة التى يستحقها) على يد على مبارك فى حيلته المهنية والشخصية، الأمر الذى يفتقر إليه شبابنا الآن. أما الأمر الثانى هو الوقوف على آليات الإصلاح والتجديد فى خطابه الذى نسجه فى ذلك القالب الروائى - كما وصفه محمد عمارة بأنه باكورة الروايات العربية الحديثة بلا منازع – ذلك العمل الذى يعد بحق الممثل الحقيقى لعبقريته فى تأليف الأعمال القصصية الجامعة بين الشكل الأدبى والمضمون الفلسفي، والبرهان الرئيسى على أصالة مشروعه ونضج أفكاره وعمق آرائه.
وسوف نجتهد فى السطور التالية فى شرح أهم أبعاده التى اعتقد أنها ما زالت فى دائرة الظل بمنأى عن أعين المثقفين وأقلام الباحثين، فكتاب «علم الدين» أحوج ما يكون إلى أكثر من دراسة من الناحيتين الفلسفية والأدبية، فمعظم الدراسات المعاصرة التى تناولت هذا الكتاب لم توفه حقه فى التحليل والنقد والمراجعة.
وقد طبع كتاب «علم الدين» لأول مرة عام ١٨٨٢ فى بيروت، وتجمع الدراسات على أنه قد كتب بين عامى ١٨٥٤ إلى ١٨٥٨ – أى خلال أزمته النفسية ومحنته العملية - وأنه يحوى من المعارف والطرائف والنصائح والأخبار عن شتى العلوم والحقب الحضارية والقضايا الاجتماعية والأخلاقية والسياسية، ذلك فضلًا عن المقابلات والمقارنات بين الثقافات والممالك والوقائع والواقعات على مر التاريخ الإنسانى ما لم يظفر به مؤلف من قبله، أضف إلى ذلك كله بساطة الأسلوب وسلاسة العبارات ودقة المعلومات التى صنع منها نسيجه القصصى فى تلك المسامرات التى دارت أحداثها بين أبطال من خيال المؤلف هم: علم الدين وولده برهان الدين وزوجته تقية والخواجة الإنجليزى ورجل يدعى يعقوب، بالإضافة إلى العديد من الشخصيات الثانوية التى أجرى على ألسنتها كل آرائه تارة بالتصريح وأخرى بالتلميح فجعلهم - فى بعض المواضع - يعظون تارة ويحذرون تارة أخرى ويصفون فى ثالثة ويشرحون ويحللون فى رابعة.... وهكذا تمضى مسامرات على مبارك تلك التى قال عنها فى مقدمة كتابه الذى نحن بصدده أى (علم الدين): «جاء كتاب اشتمل على جمع شتى من غرر الفوائد المتفرقة فى كثير من الكتب العربية والأفرنجية، فى العلوم الشرعية والفنون الصناعية وأسرار الخليقة وغرائب المخلوقات وعجائب البر والبحر، وما تقلب نوع الإنسان فيه من الأطوار والأدوار فى الزمن الغابر، وما هو عليه فى الوقت الحاضر.. مع الاستكثار من المقابلة والمقارنة بين أحواله وعاداته فى الأوقات المتفاوتة، والأنحاء المتباينة، ليطلع مطالعة على ما يشحذ خاطره، وينبه قريحته، ويستنهض فكرته، ويدرجه لإعمال عقله وإمعان نظره واستعمال بصيرته فى نقد الأمور وسيرها، وتدبرها ومقارنتها والموازنة بينها، والتمييز بين الخير والشر والنفع والضر، وتخير النافع والأنفع والحسن والأحسن منها، على نمط يسمو على السأمة، ولا يميل إلى الملامة، مفرغًا فى قالب سياحة شيخ عالم مصري، وسم بعلم الدين، مع رجل إنجليزي، نظمهما سمط الحديث لتأتى المقارنة بين الأحوال الشرقية والأوروبية.... وقد قسمته إلى مسامرات ينتقل فيها القارئ تنقل المسافر، ويجد فيها فكاهة المسامر، كما ينتفع به المعلم والمتعلم، فيكون للأول مفكرًا منبهًا، وللثانى معلمًا مفقهًا». 
وحرى بى الإشادة بذلك الجيل المتميز من الكتاب المصلحين أولئك الذين كانوا يصرحون بمقاصدهم وغاياتهم ويعبرون عنها فى مقدمات أعمالهم، الأمر الذى يعين القارئ على فهم نهوجهم واستيعاب أفكارهم وحسن تقدير مقاصدهم، وغير ذلك من أسس الاتقان فى الكتابة والتخطيط ولاسيما فى ميدان التثقيف والتوجيه والتنوير.
وسوف ننتقى أهم الأفكار وأروع الآراء وأعجب التصورات التى تبرهن على عبقرية ذلك الرجل الذى ما زلنا ندين له بالفضل الذى يدفعنا إلى الإشادة بآرائه والحث على إحياء دروبه فى التعليم والتثقيف والتربية. 
وللحديث بقية عن مسامرات على مبارك التنويرية.