السبت 27 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ثقافة

الأم نبع الإبداع.. ألهمت محفوظ "الحكاية".. والأبنودي أحب "السيرة".. وشلبي استمد صلابة "الوتد"

نجيب محفوظ
نجيب محفوظ
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
يعود الأديب مهما فاض إبداعه إلى نبعه الأصيل الذى ارتوى منه، إلى أمه سر كينونته وتوهجه الإبداعى، فلا أحد ينسى فضل الأم وعبقريتها مهما حدث، هى العنصر الأول والأساسى فى تكوين شخصية الأبناء، عبرها يتلقون الأفضل ويصبحون الأقوى، ومنها يعرفون معنى الحب والحياة والمقاومة من أجل الطموح؛ ربما لا تكون هى الأفضل حقًا، لكنها تدفع فلذاتها ليصبحوا كذلك.
حظيت الأم بمكانة بالغة الأهمية لدى أديب نوبل الراحل نجيب محفوظ، والذى قال عنها إنها لعبت دورًا إيجابيًا فى تشكيل شخصيته وتحديد مساره الأدبي، رغم أنها لم تكن تجيد القراءة والكتابة، يقول عنها «لقد علمتنى الحياة، كانت مخزنًا للثقافة الشعبية؛ دائمًا ما تأخذنى معها فى زيارتها للمتاحف ومشاهدة الآثار الإسلامية والقبطية دون فرق، وأنا طفل صغير، فضلًا عن غرامها بسماع الأغانى القديمة، وكانت علاقتى بها أوثق من علاقتى بأبي؛ نظرًا لأننى لازمتها وأقمت معها، وهى التى امتد عمرها حتى تجاوزت المائة»؛ من هذه الأم العظيمة استوحى محفوظ شخصية الأم الأشهر فى أعماله «أمينة» التى صارت من علامات ثلاثيته الشهيرة، حيث رسمها بقلمه نموذجًا للأمهات الطيبات الوديعات المتسامحات المتفانيات فى خدمة الأسرة والأبناء، والتى أكد محفوظ فى واحد من أحاديثه أنها كانت مثلها، لكنها كانت تتمتع بالحرية فى الحركة على عكس شخصية الثلاثية.
الشاعر الراحل عبد الرحمن الأبنودى هو الآخر لم ينفك عن الاعتراف بفضل الأم والجدة اللتين قامتا بتربيته، كان يُعرّف نفسه بـ«أنا ابن أمى فاطمة قنديل وجدتى ست أبوها»؛ ومنهما أحب التراث، وبسببهما تتبع السيرة الهلالية والروايات الشعبية؛ كان يقول «أمى هى ملهمتى الأولى التى صنعت مخزونى اللغوى والشعري، لا تجيد القراءة والكتابة، ولكن فى ذاكرتها تحفظ كل أغانى التراث والحكايات؛ فى قريتى لا يوجد فعل لا يصاحبه غناء، وفى بيتنا الفقير بالذات كانت أمى تغنى ليلا ونهارا، كانت تهدهدنى طفلًا صغيرًا فى حجرها بالأغاني؛ حتى بات صوتها وصورتها جزءًا من تكويني، وضيفًا فى الكثير من قصائدي».
وأظهر الروائى الكبير الراحل خيرى شلبى فى روايته «الوتد» صورة الأم المصرية فى الريف، والتى تُعتبر حتى الآن هى عمود الخيمة، والوتد الذى يجمع شمل الأسرة مهما تفرقت بأبنائها السُبل، ليعرض عبر شخصيته الشهيرة «الحاجة فاطمة تعلبة» -والتى أدت دورها على الشاشة الصغيرة الفنانة الكبيرة الراحلة هدى سلطان- حكاية لأم قوية استطاعت نسج مجتمع صغير من أبنائها، يقوم على الوحدة والتكافل والاندماج بينهم ليظلوا وحدة واحدة لا تنفصم.
الحاجة فاطمة تعلبة، التى كانت من القوة والهيبة بحيث استطاعت حمل السلاح إذا اقتضى الأمر دفاعًا عن واحد من أبنائها، هى نفسها التى ظنّ أولادها أنهم يكرهونها، أو لا يطيقون المزيد من سيطرتها؛ حيث «كثيرًا ما تمنى أبناء الدار موت الحاجة تعلبة»، كما قال شلبى فى مستهل الرواية، لكنهم أنفسهم مع ذلك الذين قلبوا الدنيا رأسًا على عقب لمجرد شعورها بالمرض واحتمال فقدانها، كما يقول «ما تكاد تلم بها وعكة صغيرة حتى تنقلب الدار كلها كأنما القيامة على وشك أن تقوم، يجىء حلاق الصحة وينصرف عددًا من المرات، ويحضر القريب والبعيد من الأقارب والأصهار والمعارف، حتى لتصير الحارة كلها - وهى كلها بيوتنا - زريبة كبيرة تضيق بركائبهم التى يبدو عليها الحزن هى الأخرى، إذ تقف مدلية الآذان عازفة عن الطعام والنهيق، وتتحول الدار إلى مولد صغير».
أمّا فى الأدب العالمي، فربما كان الكاتب الروسى الأشهر مكسيم جوركى هو أبرع من استطاع رسم صورة «الأم» بوصفها امرأة مثالية ومناضلة، ليس فقط من أجل أولادها، بل كذلك رغبة فى الحياة الكريمة فى الوطن، ليمزج بين الأم المُكافحة والوطن الذى يُعاني، فأخرج لنا رائعته التى تحمل الاسم نفسه «الأم». فى روايته الشهيرة تجسدت فى الفلاحة الروسية البسيطة «بيلاجى» صورة الأم المثالية التى ذاقت الأمرين ومرارة العناء والمشقة؛ ففى البداية لقيت من زوجها الكثير من المصائب والشرور، حيث رفض إعالتها وابنها، بينما تسيل منها الرقة فى صورة حزن واستسلام للأمر الواقع المرير، لذا فقد قبلت أن تحيا فى منزل لم يكن سوى ركن للطبخ وغرفة صغيرة لتنام بها وحجرة أخرى مربعة لابنها بول. كانت «بيلاجي» تتحمل كل هذا فى صبر وأسى؛ حتى عندما تم الحكم فى النهاية على ابنها وصديقه أندريه بالنفى خارج الوطن، ظلت تتحلى بالقوة والصبر لتستكمل نضالهما الثورى.