الأربعاء 29 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

ثقافة

"عودة الروح".. أسطورة إيزيس جسّدتها ثورة 1919

روايته «عودة الروح»
روايته «عودة الروح»
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
عندما كتب توفيق الحكيم روايته «عودة الروح» فى عام ١٩٢٧، كان وقتها لا يزال طالبًا فى العاصمة الفرنسية باريس، لذا كان نشرها يحتم عليه الانتظار حتى عام ١٩٣٣، بعد عودته إلى مصر، لتُمثّل الرواية الوليدة -آنذاك- مجموعة عوامل أدبية وسياسية تأثر بها الحكيم وكتّاب جيله فى مصر فى فترة ما بين الحربين العالميتين، أهمها على الصعيد المحلى ثورة ١٩١٩، التى يراها البعض شكّلت انتصارًا للفكرة القومية فى المجال السياسي، وبعثت فى نفوس المفكرين أملًا بتحقيق الشخصية المصرية بعيدًا عن فكرة التبعية لرجل أوروبا المريض الذى انهار بعد الحرب الأولى ولم يتبق سوى الاسم الذى تم القضاء عليه سريعًا، فى تلك الفترة لعبت الصحافة أيضًا دورًا مهمًا فى بعث الوعى القومي، والدعوة إلى تمصير الأدب وتكريس النزعة الفرعونية. 
وعلى الرغم من الكثير من العيوب والانتقادات التى وُجِهت إليها، فإن «عودة الروح» كانت من أنجح المحاولات التى استعانـت بالترجمة الذاتية، حسب ما يقول الناقد الدكتور عبدالمحسن طه بدر، لأن الحكيم استغل تجربته الذاتية لتقديم بناء فنى كامل، وربما أراد أن يجعل من حياته الخاصة رمزًا لحياة شعب بأسره، فأقدم على محاولة جادة للارتباط بالواقع، ليعتبرها «روجر آلان» أستاذ الأدب العربى فى قسم الدراسات الآسيوية والشرق أوسطية بجامعة بنسلفانيا بالولايات المتحدة، ومن قبله الأديب الكبير يحيى حقي، أول رواية نجحت فى إعطاء صورة مقنعة عن عائلة ما ضمن بيئة ضيقة؛ كذلك أسهم فى إعطاء الشخصيات طابعًا أكثر واقعية استخدام الحكيم اللغة العامية فى الحوار. 
ويأتى شكل التصور الرومانسى للفكرة المصرية خلال الثلاثينيات من القرن العشرين عماد الرؤية الفنية للرواية، فقد كانت عودة الروح مزيجًا مركبًا من تيارات أوروبية ثلاثة: الكلاسيكية والرومانسية والواقعية، ما جعل منها شيئًا جديدًا على الأدب الحديث فى مصر، وتلبية لاحتياجات المرحلة التاريخية التى نبت فيها، وامتدت خصائصه فى الأدب الروائى الحديث فى مصر بكل ما تحتويه من سلب أو إيجاب، فقد شق الطريق لروايات ما بعد الحرب العالمية الثانية، ومهد السبيل أمام ظهور الرواية العربية فى مرحلة نضجها.
لم تكن «عودة الروح» تأريخًا لثورة ١٩١٩ ومواقف سعد زغلول، بل كانت تأريخًا لشعور توفيق الحكيم بها، كما يقول هو نفسه، وتجسيدًا لجوهر الفكرة المصرية كما آمن بها، فى ذلك العام ١٩٢٧ التقت هذه العوامل الأدبية والسياسية مع حدث هزّ الشعب المصرى والحكيم نفسه، وهو وفاة الزعيم الوطنى ومُفجّر ثورة ١٩١٩، ليهب الحكيم، الذى عاصر الثورة وشارك فيها شابًا فى توزيع منشوراتها وسُجِن إثر ذلك، إلى تسجيل ذكرياته عن حياته الأولى فى مصر فى ثوب رومانسي، لتُمثّل تجربة حياتية حقيقية عاشها مؤلفها، لكنه وضع فيها رؤيته الذاتية لمصر التى تؤمن بفكرة الاستمرارية التاريخية.
تحكى الرواية عن محسن، الذى ترك قريته دمنهور وعائلته الثرية ليلتحق بإحدى مدارس القاهرة، ويعيش فى حى السيدة زينب حياة بسيطة مع أعمامه الثلاثة وعمته التى ترعى شئونهم بعد أن فاتها قطار الزواج وخادم من القرية، ويقع الذكور جميعا فى حب جارتهم سنية الفتاة العصرية التى تعزف على البيانو، لكن سنية تخيب أملهم جميعًا، وتقع فى حب جارهم وجارها مصطفى، وهو شاب ميسور الحال يترك دكانه الذى ورثه عن أبيه فى كفر الزيات ويأتى إلى القاهرة بحثا عن وظيفة بعشرة جنيهات فتشجعه سنية على العودة إلى دكان أبيه، وتصطدم مع العمة زنوبة التى تحلم بالزواج من مصطفى، وتلجأ إلى السحر من أجل استمالة قلبه ولكنها تفشل.
وسط كل هذه الأحداث تنفجر ثورة ١٩١٩ من أجل عودة سعد زغلول الذى نفى هو ورفاقه بعيدا عن الوطن ويشارك «الشعب الصغير» محسن وأعمامه والخادم فى المظاهرات التى تؤيد الثورة، وكما بدأت الرواية بهم مرضى فى الفراش فى غرفة واحدة، تنتهى بهم فى زنزانة واحدة فى السجن ثم فى غرفة واحدة فى مستشفى.
ارتكز الحكيم فى روايته على أسطورة من أساطير التاريخ المصرى الفرعونى الواردة فى «كتاب الموتى» المخطوط على أوراق البردى، ويتناول فكرة المصرى القديم عن البعث والموت وكيفية رؤيته على أنه ليس نهاية للحياة.
وأراد الحكيم لروايته دلالة أعمق من هذه الأحداث فجعل من حياة هذه الأسرة رمزا لشعب بأكمله، واختار أبطاله من الريف؛ حيث الفلاح الذى يرمز إلى الأصالة، ولجأ إلى أسطورة من أساطير التاريخ الفرعونى هى إيزيس وأوزوريس، لاعتباره أن مصر القديمة كانت واقعة تحت سلطان كلمة واحدة ملكت عليها فكرها وقلبها البعث، وعند هذه الفكرة يتوقف الحكيم طويلا «إن مصر كانت تؤمن إيمانا عجيبا بانتصارها على الزمن، رمز العدم، بالبعث الدائم». كانت الأشلاء المتفرقة التى توازى الأسطورة هى مصر المتقطعة الأوصال، وعودة الروح هى الشرارة التى أوقدتها الثورة المصرية لتصير مصر المتفككة هى نفسها مصر التى تخفى قوة روحية تقوم بالمعجزات، لكنها تنتظر المعبود الذى يوحدها من أجل تحقيق ذلك؛ وفق الحكيم، كان سعد زغلول هو المعبود الذى وحد أفراد الأمة، ودفعهم إلى القيام بالثورة، والروح التى عادت هى الروح الشعائرية القديمة التى بنت الأهرام، هى روح المعبد الفرعوني. 
كذلك فإنه من أجل تجسيد فكرة الكل فى واحد، تسيطر على الحكيم فكرة المعيشة المشتركة؛ فأبطاله يعيشون معًا فى غرفة واحدة، ويمرضون معًا، ويحبون، ويفشلون فى حبهم معًا، ويتألمون معًا، ويشتركون فى الثورة معًا، ويسجنون معًا، وهم سعداء جميعًا فى هذه الحياة المشتركة.
أيضًا الحب فى الرواية هو رمز التعلق، فبينما حب الجميع لسنية فرقهم فى البداية، فأنشأ كل واحد منهم علاقته الخاصة بها، فأيقظت الفردية عندهم بعد أن كانوا يعيشون فى سعادة جماعية؛ لكن فشلهم بهذا الحب أو ألمهم فى سبيله يرتقى بشخصياتهم ويطهر نفوسهم، ويوحدهم من جديد عند ظهور سعد زغلول، وحب مصطفى لسنية يحوله من إنسان خامل يبحث عن وظيفة مستقرة، إلى إنسان إيجابى له تطلعات من أجل تنشيط الاقتصاد الوطنى ومنع سيطرة الأجنبى عليه.
تنتهى الرواية بانفجار عاطفى للثورة الكامنة بذورها فى نفوس المصريين منذ آلاف السنين فى لحظة واحدة، لأنهم جميعا أبناء مصر ولهم قلب واحد «نهض سعد زغلول يطالب بحقهم فى الحرية والحياة، لكنه أخذ ونُفى فى جزيرة وسط البحار»، فهو جاء ليصلح أرض مصر ويعطيها الحياة والنور كما فعل أوزوريس، لكنه سُجن وقطعت روابطه فى البلاد ونُفى إلى ما وراء البحار وهنا تطبيق الأسطورة على الواقع. 
جمعت الثورة أفراد الأمة فى ذات واحدة، هى عمل شعائرى إذًا، كأن الناس ذهبوا كلهم إلى الصلاة وأمامهم هدف واحد، إنها وحدة العاطفة القومية، الكل فى واحد، هذه هى المعجزة التى رآها توفيق الحكيم فى ثورة ١٩١٩ وعبر عنها فى روايته، من جهة أخرى يرى البعض أن المؤلف الذى نظر إلى ثورة ١٩١٩ وكأنها معجزة لم يمهد لوقوعها بشكل كاف، ولا لاشتراك أبطاله فيها، فلا يحس القارئ أن اشتراكهم فيها هو نتيجة طبيعية لتطور شخصياتهم؛ لذلك فإن دورهم فى الثورة كان باهتًا لم يستغرق إلا عدة صفحات فى نهاية الرواية.