السبت 27 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ثقافة

"محفوظ" يرصد صراع "العاطفة والواجب" للبوليس في ثورة 19

نجيب محفوظ
نجيب محفوظ
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
كان «أديب نوبل» الراحل الكبير، نجيب محفوظ، أحد من مثّلوا قيمة مضيئة فى تاريخ الثقافة المصرية والعربية والإنسانية، وقدم نموذجًا فذًّا للمثابرة والجدية والدأب، مع التمسك بالتفاعل الإيجابى مع معطيات الواقع الاجتماعى دون إهمال التجديد الفني، وواحدًا ممن تناولوا حكايات وتفاصيل ثورة ١٩١٩، وقتها كان «محفوظ» لا يزال طفلًا فى التاسعة؛ لكن ما قدّمه عنها ربما لم يحظ بالاهتمام الكافى، وفق رؤية الكاتب والناقد مصطفى بيومي، والذى أدرج حديثه عن محفوظ وعالم ثورة ١٩١٩ فى موسوعته «المسكوت عنه فى عالم نجيب محفوظ». الرجل الذى ألّف ما يزيد على الخمسين كتابًا تناول خلالها كثيرًا من جوانب عبقرية وأدب محفوظ، تناول خلال الموسوعة التى صدرت مؤخرًا عن مؤسسة «مجاز» الثقافية، ما كتبه النجيب حول ثورة ١٩١٩، بداية من حكاية أنور عزمى فى قصة «نور القمر»، والتى تضمنتها مجموعة «الحب فوق هضبة الهرم»، فهو ضابط جيش متقاعد له دور سياسى محدود فى الثورة التى كان عند اشتعالها طالبًا فى الكلية الحربية، والذى يقود حديثه لسلبية طلاب مدرسة البوليس وعزوفهم عن المشاركة فى الثورة الشعبية.
فى تحليل آخر لبيومى ظهرت إشارات أخرى مضادة فى «حديث الصباح والمساء»، والتى أظهرت مواقف متباينة فى معرض الحديث عن حامد عمرو عزيز، وموقفه الوطنى وهو طالب فى مدرسة البوليس عندما كان فى السنة النهائية؛ حيث اتُهم بالتحريض على الإضراب، وحوكم، وأنزل إلى السنة الأولى من جديد؛ يُلازم موقفه حسن محمود المراكيبى الذى غمرته ثورة ١٩١٩ بعواطفها القوية، وإن لم يتعرض بسببها للأذى كما حصل لحامد.
أمّا عشماوى جلال الضابط الكبير فى لواء الفرسان بالجيش المصرى فى «المرايا» فهو ألد أعداء ثورة ١٩١٩ وثوارها فى عالم نجيب محفوظ الروائي؛ يحكى النجيب «وجرت أخباره كحكايات الرعب بأنه يقتل بلا رحمة، ويعذب ضحاياه فيربط الطلبة بجواده وينطلق به وضحيته يسحل خلفه مرتطما بالحصى والأسفلت حتى تفيض روحه»؛ على الجانب الآخر من الثورة فى المُقابل ينضم طه عنان إلى شلة الأصدقاء رغم أن أباه كان مأمور قسم شرطة بأسيوط، ثم نقل إلى القاهرة مأمورًا لقسم الوايلى مُتخذًا من العباسية مقامًا لأسرته؛ لكن لا تحول وظيفة الأب دون وطنيته ووطنية ابنه، رغم أن الوظيفة نفسها تجبره على الالتزام بسلوك لا يروق للشباب الوطنى المسكون بالحماس غير المحدود.
«مما يُذكر أن أباه كان ضمن القوة التى حاصرت المدرسة ثم اقتحمتها بعد ذلك بالقوة والعنف. وناقشنا موقف والده، وكان خجلًا منه ومتألمًا. وجعل يدافع عنه فيقول: - أبى وطني، مثلنا تمامًا، ويؤمن بمصطفى النحاس كما آمن بسعد زغلول، ولكنه يؤدى واجبه! فقال رضا حمادة: - سمعنا عن ضباط مثله انضموا إلى الثورة فى سنة ١٩١٩، فقال طه عنان مدافعه عن أبيه ما وسعه الدفاع: - كانت أيام ثورة ولا ثورة الآن». يشرح الكاتب والناقد فى موسوعته أن التضحية ممكنة وشائعة فى مرحلة المد الثورى العارم، حيث يتسابق الجميع إلى البذل والعطاء، دون خوف أو حسابات، أما الركود المستقر فيحول الوطنية إلى عقيدة وإيمان نظري، بلا فعل أو أمل فى الواقع، لذا يسقط طه عنان شهيدًا فى مظاهرة وطنية ضد حكم الطاغية إسماعيل صدقي، ذلك أن ضباط الشرطة جزء من النسيج الوطني، ولا يختلف أبناؤهم عن أبناء الآخرين، فى ذروة الحماس الوطنى الملتهب قد ينضم بعض ضباط الشرطة. لكن يظهر الدور المحدود لأفراد الشرطة المصريين، والهيمنة الكاملة للجيش الإنجليزى وقيادتهم المسيطرة على الشرطة فى «بين القصرين»، عندما يُشارك فهمى أحمد عبدالجواد فى المظاهرات الشعبية العارمة «وفى ميدان السيدة زينب بدا له منظر جديد من مناظر ذاك اليوم العجيب، رأى مع الرائين جماعات من فرسان البوليس وعلى رأسها مفتش إنجليزى تتقدم ساحبة وراءها ذيولًا من الغبار، والأرض تضطرب تحت وقع السنابك»؛ هنا، تصطدم وطنية الضباط المصريين مع واجبهم المهنى والتزامهم بالتعليمات التى لا تقبل المناقشة والصادرة من القيادة الإنجليزية، كانت قلوبهم وعواطفهم مع الثورة الشعبية وزعيمها سعد زغلول، ومستقبلهم الوظيفى رهين بالطاعة وتنفيذ الأوامر. فى الوقت نفسه لم يضع نجيب محفوظ أى من هذه الشخصيات فى مقام المُذنبين، فقد تكون القلوب مع الثورة وزعيمها والمشاركين فيها من جموع الشعب المصري، لكن اعتبارات أخرى كثيرة تلعب دورًا فى الحيلولة بين الفعل والنوايا؛ هكذا فالإدانة المطلقة ليست واردة، ولم يخل الأمر من سياسيين ومواطنين عاديين، وقفوا ضد تيار الثورة الجارف لأسباب متباينة، أبرزهم أحمد عبدالجواد نفسه، والذى لا يتطرق شك إلى وطنيته، لكنه مارس قهرًا عنيفًا ضد ابنه فهمى عندما علم مصادفة بنشاطه الثوري، ومن إطار حرصه على مصلحة ومستقبل ابنه قام مُهددًا إياه بإبلاغ البوليس «حيرتمونى يا أولاد الكلب وجعلتمونى أضحوكة الناس، أنا أسلمك بنفسى إلى البوليس، فاهم؟! بنفسى يا بن الكلب». 
لكن عندما يتعرض أحمد عبدالجواد لاعتقال مؤقت بمعرفة الجنود الإنجليز، فإنه لا يشعر ببوادر الارتياح والطمأنينة إلا عندما يتعامل مع الجنود المصريين الذين هم فى الوقت نفسه لا يحظون بثقة قادتهم، فهو يعرف أنهم متعاطفون مع أبناء وطنهم، ومجبرون على العمل ضد عواطفهم، ويدرك أن التعامل معهم ميسور متاح؛ وصف محفوظ حاله «ثم تراءى له جنود من البوليس المصرى رد منظرهم إلى صدره الدماء، سأعرف ما يراد بي»، وقد صحت رؤيته «اقترب منه شرطى ورمى إليه بمقطف وهو يقول بصوت غليظ ينم عن وعيد: -افعل كما يفعل الآخرون.. ثم همسًا: - أسرع حتى لا يصيبك أذى.. كانت هذه الجملة أول تعبير إنسانى يلقاه فى رحلته المخيفة فسرت فى صدره سرى النسمة فى حلق المختنق. انحنى على المقطف فتناوله من علاقته، وهو يسأل الشرطى همسًا: - هل يطلق سراحنا إذا تم العمل؟ فأجابه بنفس الصوت: - إن شاء الله». يقول مصطفى بيومى فى حديثه عن ذلك المشهد: الصوت الغليظ العلنى موجه إلى الضباط والقادمة ممن يراقبون العمل ويشرفون عليه ويشكّون فى إخلاص الجنود المصريين، أما الهمس الرقيق الإنسانى فتعبير عن التعاطف المكبل بقيود تحكم الجميع وتتحكم فيهم. يُشير بيومى إلى أن الجندى كان يتحايل ولا يغامر، يسعى إلى أداء واجبه الشكلي، ويقنع بالهمس ليجسد حقيقة عواطفه، مُدللًا على حقيقة موقف الشرطة المصرية ما ذهب إليه أحمد عبدالجواد على ضوء ملاحظته لما يدور من حوله «جنود البوليس المصريون معهم بقلوبهم أى معنى ذلك أنهم جردوا من سلاحهم.. لم يعد السيف ذو الغمد المعدنى يتدلدل من أحزمتهم»، لا يثق الإنجليز فى جنود الشرطة المصرية، لكنهم أقرب إلى الاضطرار عند الاستعانة بهم؛ وفى المقابل، يتمزق هؤلاء الجنود بين العاطفة والواجب، ولا يملكون إلا المثابرة والتحايل حتى الانحسار والتراجع، فسرعان ما تنحسر الثورة وتتراجع قيمها.