الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

الاقتصاد الأسود ومافيا المصالح

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
يمكن أن تنظر لكل مجتمع باعتباره جسدًا إنسانيًا، يقوم بعمليات حيوية يومية، ويمارس السعادة، ويتفاعل مع أحداث مزعجة، ويدخل فى حداد، ويسعد بالغنى، ويقاوم الفقر، وحين يمرض؛ فإنه يغنى حتى يجد فى غنائه دواءً جديدًا يناسبه هو، وهو فقط. 
لم يكن غريبًا أن نجد أشكالًا من الاقتصاد غير الرسمى فى أوقات الأزمات الاقتصادية، وعلى الرغم من أن هذه الأشكال تمثل ضغوطًا متعددة على الاقتصاد الرسمي، أهمها أنها تحرك الاقتصاد داخليًا بطريقة لا يمكن تنظيمها بخطة قومية فى بعض الأحيان، إلا أن الأمر نشأ عن حاجة اجتماعية لا بد من رصدها قبل البدء فى أى تحرك.
إن الاقتصاد الموازى فى مصر حاليًا يتمثل ببساطة فى الأفراد الذين يمارسون مهنًا دائمةً أو موسمية بالنسبة لهم (أو بالحتة)، وليس لهم أوراق رسمية تسجل ممارستهم للمهنة، وربما ليس لهم مقر ولا تُعرف أسماؤهم أحد حتى فى بعض الأحيان. أعتقد أنه لا يوجد حى ليس به سباك أو كهربائى أو سائق يمارس عمله بهذه الطريقة، بل قد يمتد الأمر لمعامل صناعات «تحت السلم». درج المصريون على تسمية معظم ممارسى هذه المهن بالـ (أرزقي)، ولم يجدوا فى التعامل معهم أية غضاضة، لا سيما حين يبرعون فيما يعملون، طالما أن القانون لا ينظم تلك الأعمال ولا يعاقب على التعامل مع معظمها، ما لم تكن مخدرات أو أطعمة فاسدة أو ما يشبهها. ظهر للجميع أن هذه المهن تتكاثر فى ظهورها على الحاجات المجتمعية المختلفة، فمثلًا يلجأ الأفراد لكهربائى حين لا توجد شركة صيانة معتمدة أو يرتفع سعر شركة الصيانة عن الكهربائى كثيرًا، وسنجد الكثير من شكاوى الـ(أرزقية) حول بعض الشركات التى تمارس عملها بنجاح كيفيًا وتقنيًا. 
يظهر مما سبق أن الاقتصاد الموازى يمكن التحكم به عبر مطاردة الحاجة المجتمعية التى أفرزته، وعلى الرغم من أن بعض المواطنين يحبونه، ويجدون فيه إسعافًا سريعًا فى كثير من متطلبات حياتهم، بل ويشجعونه كشكل من أشكال القضاء على البطالة، لا سيما لدى الشباب، إلا أن هذا الاقتصاد تحيط به الكثير من الأخطار التى بدأت كعلامات استفهام وتطورت لكوارث فى بعض الأحيان. يُحسب العاملين به ضمن العاطلين عن العمل، مما يعطى شكلًا علنيًا مزيفًا للبطالة، وهؤلاء العاملون يفتقرون لكل مزايا التأمين وحقوق العاملين وضوابط العمل الإنسانية التى تتولى متابعتها الأجهزة الرسمية فى أية دولة. مثل هذا الاقتصاد رقميًا حوالى ٣٠٪ بواقع ٣٠٠ مليار جنيه مصرى من إجمالى الإنتاج المحلي، ومثل حوالى ٧٠٪ من حجم صناعة الغذاء فى مصر بواقع ٧٥ مليار جنيه مصرى، ومثل عدد الباعة الجائلين من ممارسى الاقتصاد الموازى حوالى ٣ ملايين نسمة، حسبما أمكن الوصول إليه. ليس هناك ما يمنع عمالة الأطفال فى هذه الأنشطة ولا سلامة المنتج الذى قد يكون غذائيًا أو طبيًا، وليس هناك فى كثير من الأحيان ما يمكن المستهلك من تقديم حتى شكوى فردية نحو من قدم له منتجًا أو خدمة تضره، ولا يستفيد المواطن من جنى الضرائب القانونية على أرباح هذا الاقتصاد. 
تطالعنا الأرقام فى دول العالم النامى بواقع يجب التعامل معه فى هذا الصدد، إذ بلغ الاقتصاد الموازى فى الغالبية العظمى من دول أفريقيا نسبة تزيد على ٤٠٪ من إجمالى الإنتاج المحلي، بينما وصل فى كثير من دول أمريكا اللاتينية إلى ٤٦٪. وهو أمر تجب مواجهته كما ذكر تقرير لمنظمة العمل الدولية التى ترى فيه أن هذا الاقتصاد يثير القلق حول قدرة العمال على التمتع بحقوق العمل، وأن هناك اتجاهًا واضحًا بين مستوى التعليم واحتمال المشاركة فى السوق الرسمية. لذا على الجميع الاهتمام بالتوعية المجتمعية، فكما ذكرنا أن هذه الأشكال تنشأ عن حاجات مجتمعية ضمن ما تنشأ عنه.
تطور الاقتصاد الموازى مع اتساع رقعة سيطرة تكنولوجيا الإنترنت ليصل لأنشطة جديدة خطيرة منها الإعلام، وأصبح كل من يملك جهاز هاتف ذكى إعلاميًا ينشر أخبارًا، حتى وإن كان هذا النشر لا يتفق مع أى معايير مهنية، وهو يجنى أرباحًا، ومن ذلك ما يناقشه البرلمان الأوروبى حاليًا من محاولة سن قوانين تحمى وكالات الأنباء من نشر أخبارها المدفوعة الأجر على مواقع التواصل الاجتماعى مجانًا، مما يضر بها ضررًا كبيرًا. أصبحت كل الأجهزة الرسمية الآن تواجه التحدى الافتراضي، إذ صار العالم مزدوجًا فى كل شيء، وجه واقعى ووجه افتراضي، لذا فكر أعضاء بعض الأجهزة التشريعية ببعض الدول فى التحول للاقتصاد اللانقدى حتى يمكن مراقبة الكثير من الأنشطة الاقتصادية الفاسدة التى يمكن أن يدخل فيها الاقتصاد الأسود بوجه أو آخر. 
تعانى الدول النامية هذا الاقتصاد اللا رسمي، وأطلق عليه لطبيعته «الاقتصاد الأسود» أو «اقتصاد الظلام» أو «الاقتصاد الخفي»، وتعمل الأجهزة المعنية فى مصر على تنظيم هذا الاقتصاد بجهد واضح ومشكور تزايد منذ عام ٢٠١٥م، ولعل المصالح المجتمعية التى أفرزت هذا الاقتصاد هى وجود أنشطة اقتصادية مفقودة أو تتم على نحو لا يرضى المستهلكين فى أشكالها الرسمية، لذا سيساعد المواطنين على اختفاء هذا الاقتصاد كلما توفرت لهم أشكال رسمية ترضى حاجاتهم المختلفة، إذ لن يلجأ المواطن للسوق السوداء غير الرسمية والسوق البيضاء الرسمية نظيفة ومتاحة، وأظن أن هذه هى بداية أى حل لمواجهة هذا الاقتصاد الأسود. الغريب أن هذا الاقتصاد الخفى يستطيع أن يهاجر من مكان لآخر دون أن يفقد مكاسبه، وهو ما حدث أكثر من مرة حين تحرك هؤلاء من محافظة لأخرى تاركين خلفهم أخطارًا وضحايا.