الإثنين 29 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

حقيقة العالم

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
زعم الفلاسفة، منذ القدم، أن ما قد يظهر لنا من العالم ليس هو بحقيقة العالم، فهذا الذى يظهر منه متغير والحقيقة ينبغى أن تكون ثابتة. فنحن نرى الأشياء تظهر أمام أعيننا حينًا ثم تختفي، ولكن هل يمكن أن تكون حقيقة العالم هذه هى الظواهر العابرة التى لا تلبث أن توجد حتى تفنى؟ أم أن الوجود الحقيقى غير هذه الظواهر الزائلة؟ ذلك هو السؤال الرئيس الذى حاول الفلاسفة الإجابة عنه منذ كانت الفلسفة.
ولقد ظهرت التفرقة بين ما هو ظاهر وما هو حقيقى لأول مرة عند المدرسة الأيلية، إذ ذهب الأيليون – كما هو معروف – إلى التفرقة بين عالمين هما: عالم الظاهر وعالم الحقيقة؛ ورأوا أن الحركة والتغير والصيرورة، وكذلك التعدد والكثرة تكون عالم الظاهر أى عالم الوهم، وأما الوحدة والكون فهما الصفتان الأساسيتان لعالم الحقيقة. وعالم الظاهر أو عالم الوهم، هو ذلك العالم المألوف لدينا الذى نعرفه عن طريق آذاننا وأعيننا وأيدينا... الخ، أعنى عن طريق الحواس بصفة عامة. أما عالم الحقيقة أو الوجود الحقيقى فيعرف عن طريق العقل وحده ولا يمكن للحواس أن تعرفه ولا يمكن لنا أن نلمسه أو أن نراه أو نشعر به، لكنا نصل إليه بالفكر وحده أى بالعقل فحسب.
ورأى الأستاذ الدكتور إمام عبدالفتاح فى كتابه: «مدخل إلى الفلسفة»، أن مثالية «سقراط» تكمن فى قوله: إن المعرفة هى معرفة المبادئ الثابتة التى توجد خلف الظواهر المتغيرة، فالعلم عنده هو البحث عن الكل وراء جزئياته لأن ما يتغير لا يكون علمًا بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة. إن العلم لا بد أن يتصف باليقين الذى لا يزعزعه اختلاف الناس ولا اختلاف العصور. صحيح أن «سقراط» كان دائم البحث عن تعريفات للمفاهيم الأخلاقية الشائعة: كالتقوى والعدالة والخير والشجاعة والفضيلة... وما إلى ذلك، لكن هذا لا يغير من الأمر شيئًا، فما يهمنا هو أن عالم الأخلاق عنده انشطر نصفين: عالم ظاهر هو ما يراه من سلوك جزئيّ متغير، ثم عالم الحقيقة الذى يكمن وراء هذه الجزئيات وهو ساكن ثابت لا يتغير.
وهذه الفكرة واضحة عند «أفلاطون»، الذى كان يعتقد أن عالم الحس هو عالم التغير ولهذا فهو غير حقيقى لأن الحقيقة أبدية ساكنة لا تتغير، كما كان يقول الأيليون، وهى كلية لأنها تقوم على أساس الماهيات الثابتة كما كان يقول «سقراط». ومعنى ذلك، أن المعرفة لا تستمد من الحواس التى تعطينا عالم الظاهر أو عالم التغير؛ وإنما يكونها العقل وحده الذى يصل بنا إلى عالم المثل. ولقد تأثر «أفلاطون»، فى نظريته عن المعرفة، برأى أستاذه «سقراط» الذى كان يبحث عن التصورات الكلية فى عالم الأخلاق، لكن «أفلاطون» سار أبعد من أستاذه فبحث عن التصورات العقلية التى تفسر الموجودات جميعًا والتى تُعّدُ الأساس المطلق أو الحقيقة النهائية للعالم كله؛ وقد رأى أن هذه الحقيقة النهائية هى «المثل». ومثال الشيء هو الطبيعة العامة الأساسية والمشتركة بين جزئيات هذا الشيء؛ وهذه الطبيعة العامة هى الأصل الأساسي وهى خالدة وأبدية وتقع فى عالم بعيد عن الزمان والمكان هو عالم «المثل».
وعلى هذا الأساس، قسم «أفلاطون» الوجود قسمين: القسم الأول هو العالم المحسوس، والقسم الثانى هو العالم المعقول أو عالم «المثل». ويمكن أن نقول بصفة عامة: إن عالم المحسوس تقابله معرفة الظن، على حين أن العالم المعقول تقابله معرفة العقل. هذا يعنى أن المعرفة التى تأتى بها الحواس ليست معرفة يقينية وإنما معرفة ظنية أو تخمينية لأن موضوعها – وهو العالم المحسوس – متغير، مع أن المعرفة هى الحقائق التى لا تتغير كما بين الأيليون و«سقراط» من قبل. ومن هنا، فإن المعرفة اليقينية هى معرفة العقل وحده.
وجاء «كانط» فقسم العالم إلى قسمين: عالم الظاهر وعالم الشيء فى ذاته، فهناك الظواهر أو الأشياء على نحو ما تبدو لنا؛ ثم هناك الأشياء كما هى فى ذاتها. وليست تلك القسمة خاصة بالعالم ككل فحسب، وإنما كل شيء من أشياء العالم له ظاهر وباطن أو مظهر وحقيقة.
أما «برادلي» فقد سعى إلى النظر إلى العالم ككل، وفى سبيل ذلك بين لنا أن النظرة إلى العالم بوصفه مؤلفًا من موضوعات منفصلة، نظرة متناقضة تمامًا. ذلك أن العالم واحد والواقع الحقيقى واحد، فالعالم ليس فيه موضوعات منفصل بعضها عن بعض وكل ما يبدو فى الظاهر من اختلافات مآلها إلى الزوال. ولقد عبر من خلال كتابه «المظهر والواقع» عن هذه المسألة أدق تعبير، فنجده يقسم الكتاب إلى قسمين: الأول فى «المظهر» والثانى فى «الواقع». ويُعرف المظهر بأنه: ليس الظاهرى سواء فهمنا هذا الظاهرى على أنه معطى فى الوعى أو أنه مقابل «الشيء فى ذاته». والمظهر ليس مجالًا معينًا للوجود أو الفكر يتميز عن أى مجال آخر، فربما تكون كل هذه الأشياء معًا، ولكنه هو الشيء الذى نكون أمامه كلما ظهر لنا تعارض بين الكيان الموجود وبين الشيء الذى هو موضوع للفكر، وكان الفكر تغمره المتناقضات ولا يدرك إلا جزءا بدلًا من الكل، وكثرة بدلًا من الوحدة والنسبيّ بدلًا من المطلق.
أما الواقع فهو ما يقابل المظهر من جميع النواحي؛ إنه يخلو من التناقض وهو وحدة وكلية واستقرار وانسجام، إنه شامل لكل شيء وهو حقيقة كاملة، أى باختصار إنه المطلق. وعلى ذلك كتب «برادلي» يقول، بصدد علاقة المظهر بالواقع: «إن العلاقة الإيجابية لكل مظهر بوصفه عرضيًا للواقع وحضور الواقع وسط مظاهره بدرجات مختلفة وبقيم متفاوتة، هذه الحقيقة المزدوجة نجدها محورًا للفلسفة».