الإثنين 29 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

علاقة الحقيقة بالواقع

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
كانت فكرة الصلة بين الحقيقة والواقع هى محور كتاب الفيلسوف الإنجليزى الشهير هربرت برادلي: «المظهر والواقع»، حيث يتميز الواقع عنده بأنه وحدة لا انفصال فيها وكلية واستقرار وانسجام وهو شامل لكل شيء، أما الفكر فمهمته هى الفصل بين عناصر هذا الواقع ثم إعادة الجمع بينها. وكل عنصر من هذه العناصر المكونة ينتسب إلى الآخر، فإذا كانت النسبة متسقة ومنسجمة كان التفكير صحيحًا وإن لم يكن كذلك كان التفكير غير صحيح. وأحد هذه العناصر يمثل جانب الـ «هذا» وهو العنصر الذى يشير إلى الموضوع عن طريق العنصر الآخر الذى يمثل جانب الـ «ماذا» بوصفه محمولًا، أى أنه «ما» يُحمل على هذا الموضوع. إذن، فالفكر يقسم وحده الواقع؛ أما الواقع ذاته فهو واحد.
ولا شك أن الحقيقة تنتمى إلى مجال الفكر الذى يفصل عناصر الواقع ثم يعيد تجميعها ثانية، فالحقيقة يتم تحقيقها من خلال تجربة مثالية حيث تتأسس كل الأحكام على نسق تام للواقع. وفى هذا يقول «برادلي»: «إن الحقيقة هى الواقع منظورًا إليه على أنه مثالي، أو يتم النظر إلى الواقع على أنه نسق معقول. بناء على ذلك، يمكن فهم كل حكم واستدلال على أنهما اتجاه وهدف إلى مثل هذا الواقع. فالدرجة التى تنجح فيها كل النماذج المتنوعة وتخفق فى الوصول إلى غايتها المشتركة تعطى لكل منها مكانتها الخاصة ومنزلتها فى الكيان كله».
لكن كيف يمكن فهم الصلة بين الحقيقة والواقع؟ أهى صلة هوية وتشابه أم اختلاف؟ أم هى صلة تجمع بين الاثنين معًا؟ إن الحقيقة فى هوية مع الواقع وهى أيضًا فى اختلاف معه فى الوقت ذاته، فهى بوصفها تفكيرًا عقليًا لا يمكن أن تكتفى بذاتها، بل لا بد من شيء يقع خارجها تفكر فيه وتحكم عليه. وليس من المعقول أن ينحصر الواقع كله فى فكرة من أفكارها أو حكم من أحكامها، لكن الواقع يتجاوزها باستمرار. ومن هنا يقوم الاختلاف بين الحقيقة والواقع.
لكن الحقيقة من جانب آخر تكون فى هوية وتشابه مع الواقع، ذلك لأن الواقع يكون حاضرًا وماثلًا أمامها ومشاركًا أيضًا فى طبيعتها. لكن هذا الحضور والمثول ليس حضورًا أو مثولًا كاملًا وهذا ما يجعل الحقيقة تسعى دائمًا إلى استكمال هذا النقص ومحاولة بلوغ الكمال. معنى هذا، «أن غاية الحقيقة هى أن تصبح الواقع وتمتلكه فى شكل مثالي، أى أنها تتضمن اكتمال ما هو معطى؛ ويعنى أيضًا أنها مقيدة بهذه المعقولية».
إن الحقيقة - كما يرى «برادلي» - هى وجه واحد من أوجه الواقع، وأن فيها نقصًا أساسيًا لا يكتمل إلا بانضمام الأوجه الأخرى. وهذا يعنى أن الحقيقة هى الكون كله محققًا ذاته على وجه واحد، فهى تحيل كل ما ندركه فى الواقع إلى فكر. وإذا استطاعت أن تستكمل هذا النقص وتحقق كمالها، أى إذا عبرت عن الواقع بكل أوجهه، فلن تعود عندئذ حقيقة بل تصبح هى الواقع ذاته. وفى هذا يقول «برادلي»: «إن الحقيقة هى الكون بأسره يُدرك ذاته، وهذه الطريقة فى الإدراك أحادية الجانب. وهى ليست طريقة لغاية الإشباع حتى لمطالبها بل تشعر بأن ذاتها ناقصة. ومن ناحية أخرى، إن رؤية اكتمال الحقيقة لذاتها يؤدى إلى الواقع ككل بشكل شامل فهو يدرك ذاته ويسعى إليها عن طريق الحقيقة. وهذه هى الغاية التى تؤدى إليها الحقيقة وتدل عليها، ولا يمكن أن تحقق ذاتها بدونها. وتلك هى السمات التى تكون فيها الحقيقة ناقصة؛ وهى بدقة تلك التى تنشئ الاختلاف بين الحقيقة والواقع».
وحين تصل الحقيقة إلى هدفها الأقصى وهو استيعاب الواقع كاملًا تكون بذلك قد قضت على نفسها بنفسها. وتكون أمام أحد أمرين: إما أن تظل تعانى من النقص باستمرار أو قضت على ذاتها باتحادها واندماجها فى الواقع، وذلك لمحاولة استكمال هذا النقص. وإذا نظرنا إلى هذا النقص، فهو ماهية قريبة من ماهية الخطأ. وبمكن القول، إن كل حقيقة تنطوى على نوع من الخطأ، وأن ماهية الحقيقة وماهية الخطأ متداخلتان (وهذه فكرة تعبر عنها درجات الحقيقة). وإذا كانت الحقيقة وجهًا واحدًا من أوجه الواقع، فإن الفارق بينهما ليس إلا فارقًا فى الدرجة فحسب. فالواقع يعبر عن ذاته من خلال ذلك الوجه من أوجهه أى من خلال الحقيقة. ومن هنا يقترب كلا الجانبين من الآخر حتى تسود الوحدة بينهما، فالحقيقة تصبح عينية والواقع يصير عقليًا.