الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

ذاكرة «البراوني»!

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
ما لون عينيك؟ سألتها، لكأننى أرى فى أبعادهما، فيروزًا مبعثرًا، وسنابل خضراء، ونهر عسل، كيف أميّز الألوان؟ فى هذا المهرجان الثرى، ليس بوسعى إلا أن أهتف خاشعًا: «تبارك الله أحسن الخالقين».
ابتسمت الحُلوة ابتسامة خَجْلى، صمتت برهة، كأنها تستعيد وقع العبارة فى ذهنها، وتتذوق الجُمل مَزمزةً، ثم أطلقت ضحكة مجلجلة، ذوّبت موسيقى الكون فى المساء: لستَ هينًا.
على العكس، إننى أبسط مما تتصورين، ما أحسه أبوح به، من دون حسابات، هذا يورطنى كثيرًا، لكن التورط فيك يبدو مغريًا.
كانت الصدفة جمعتنى ذات مساء سكندرى، بالحلوة، حيث كنا مدعوين لعيد ميلاد صديقة مشتركة، بفندق «سان جيوفاني»، وشاء حسن الطالع، أن تجلس إلى جوارى، فيما تشرف طاولتنا على البحر، حيث الموج يضرب الصخور، ونحن نستمتع بالمشهد البديع، من خلف الزجاج.
طلبت إلى النادلة أن تأتى بحلوى «البراوني»، وطفقت «أتفلسف متحذلقًا»: «إن البراونى كالنساء، فيها تناقضاتهن المثيرة، الجيلاتى المثلّج يمتزج بالشوكولاتة السائلة الساخنة، مع الكعك الإسفنجى، فتتحقق ثلاثية ما، تبدو متنافرة، لكن ما إن تضعين ملعقة بين شفتيك، حتى تكتشفين تناغمًا يُستطاب، المرأة كذلك، فيها الحنين، وفيها القسوة، فيها الرحمة، إذا لانت، وفيها الجحيم، إذا غضبت، فيها اختزال المتناقضات، وفيها تتصالح المتناقضات».
كأنى على سجادة سحرية، يمتدُ الحديث رائقًا، فلا تخذلنى القريحة، لينتهى الحفل، بوعد أن نصل ما انقطع فى اتصال هاتفى، بدأته ببيتى شعر: «عيناكِ مخاطرةٌ كبرى/ وأنا مجنونٌ لا يحذرْ/ شفتاكِ زهرةُ توليبٍ/ والخصرُ طاووسٌ يتبخترْ».
هل كتبت فى أنا؟.. لعلك جديرة باستمطار القريحة، تمتمت صادقًا.
فى الحقيقة، إننى أحس شغفًا تجاهك، لكن أريدك أن تعرف أنى قبطية، قالت، فهتفت بأبيات ابن عربي: «أدينُ بدينِ الحبِّ أنّى توجهتْ ركائبُهُ فالحبُّ دينى وإيماني»، ومضيت أقول: «لست مهتمًا بما تدينين، إننى أحس خشوعًا سابغًا، متى مررت جنب كنيسة، فقُرعت أجراسها، تمامًا مثلما أشعر، ساعة أذان الفجر، يبدو أن نشأتى فى حى إفرنجى، قد ساهمت فى تشكيل وجدانى، وعليه فما من أزمة فى أن تكونى مسيحية، إلا إذا كانت هناك أزمة فى كونى مسلمًا».
كانت الحلوة قصيرة القامة، نوعًا ما، ذات وجه مستدير استدارة هندسية تامة، شعرها أسود فاحم، بشرتها بيضاء صافية، على خديها نمش خفيف، يزيدها حسنًا، عيناها ضيقتان بدرجة ما، غير أن لها نظرة تخترق جدران القلب، كل السيوف قواطع إن جردت، أما لحظها فقاطع فى غمده.
تشاركنى حبى الجامح للبحر، إذا سألتها فى أى مكان نلتقي؟ قالت: «أى مكان نرى منه البحر»، وكان «سان جيوفاني»، مقصدنا التقليدى، نطلب «البراوني»، وهى إلى جوارى، تسند رأسها الصغير إلى كتفى بعض وقت، وتنام يدها فى يدى، كيمامة آمنة، أتمعن الأنامل المصقولة، فأتنهد.. ينبجس الشرر فى شرايينى، وتطيش دماء الرجولة فى رأسى، وقد أبوس الإبهام والسبابة، من حين إلى آخر، فتنتفض حياءً، أو تمنعًا وهى الراغبة، وقد تشدُّ أذنى برقة أنثوية: «احترم نفسك»!
معها يطيب مذاق القهوة، والتدخين، ويغدو الكلام المكرر، كبوحِ الكمنجة، كل شيء يصير أحلى إذا حضرت.. إذا ضحكت تبسمت السماء، إذا رضت أسير فوق الماء، إن الهوى يفتح على العباد الصادقين، فتوح العارفين.
غيابها كان يبعثر فى شرايينى جمر الغضب، يسوء مزاجى، أُحطمُ مثل شظايا الزجاج، أصبح وأمسى كزورق مثقوب، فى ليلة عاصفة.
إلى أين نتجه.. ما نهاية الطريق؟ لم أفكر، ولم تفكر، حسبنا أننا معًا الآن، يدها فى يدى، تساوى كنزًا، إن الوقت صفر فى حساباتنا، وما دام الغد ليس معلومًا، فلنترك المقادير تمضى على «حسب الريح، ما يودى الريح».
وأتى رمضان، فإذا بها تنذر للرحمن صومًا، لماذا؟ قالت: «أريد أن أختبر تلك السعادة التى يحس بها المسلمون، حين يذهب الظمأ، وتبتل العروق، إننى مثلك أحس خشوعًا خالصًا، متى يحين الفجر، أظن أن قلبى قادر على أن يكون كنيسةً ومسجدًا معًا».
لم أعترض، ولم أوافق، إنى أقدّس الإرادة الحرة، لست وصيًا عليها، إننى أشغف بها، أحب حديثها، أستأنس بوجودها، يروق لى رنين صوتها، أسعد بتمعن قسمات وجهها، وأسبّح الله الذى أبدع وصوّر.. ولا أطمح فيما هو أكثر.
على أن قرارها ذاك، ما كان ليمر إلا مرورًا مزلزلًا، فى محيطها الأسري: إن البنت تضيع، ستصبأ، سيلاحقنا العار، وبدأت جلسات الاستجواب، فاعترفت أن مسلمًا فى حياتها، وهى لن تغادر دينها، وإنما تريد أن تقترب إليه وجدانيًا، فتحس إحساسه فى رمضان، إنه لم يطلب ذلك، فعلتُ بمحض إرادتى، إننى مسيحية مخلصة، والمسيح جاء بكلمة المحبة.
وبعد المداولات، اُتخذ القرار: سنبعث بها إلى عمها فى الولايات المتحدة، هكذا تبعد عنه، إن الأيام كفيلة بأن تنسيها إياه.
يوم رحيلها، رنّ هاتفه، إنها تبكى بانكسار: «سأشتاق إليك، كلما أكلتُ البراونى، ستبقى فى ذاكرتي»!
أخذت نفسًا بصعوبة، كان الغلاف الجوى خاليًا من الأكسجين، ألقيت على مسامعها: «يا امرأة سحقتنى سحقًا/ سأفتشُ عنكِ ولن أحذرْ/ سأجوبُ الأرضَ بلا تعبٍ/ فأنا يا عُمرى الإسكندرْ/ وأنا فى حبِّكِ قديسٌ/ مصلوبٌ لكن لا يضجر، وسأذرفُ أشعارًا تبكي/ وسأكتبُ دمعًا يتحدّرْ».. وعندئذٍ انتهت القصيدة.