الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

لن أعتذر

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
كأن الأرض توقفت عن الدوران، فصارت الثوانى ثقيلة مترنحة، على الفتى الذى لم يتجاوز العاشرة.
الجيران وعمه وخاله وأمه حاصروه جميعًا، هذا يهدد، وذاك يتوّعد، لكنه يتشبث بموقفه، رافضًا النزول على مطالبهم.
كان يقف أمامهم متهمًا بجرم، ارتأى أنه لم يقترفه، لكن الكبار إذا أصدروا أحكامًا رفضوا الطعن والاستئناف، وحتى النقاش، وتلك من صور الديكتاتورية التربوية، فى متوالية القهر الشرقية.
ورغم أنه الآن، لا يتذكر لائحة الاتهام، وماهية الإثم الذى دفعهم جميعًا إلى الانقضاض عليه، إلا أنه يتذكر جيدًا أنه كان يرتعش أمامهم من فرط خوفه.
أنا برىء مما يدعون براءة الذئب، من دم سيدنا يوسف عليه السلام... تشبث بصلابة أكبر من سنه، رافضًا التفوه بكلمة آسف.
هتف أحدهم: «قل آسف ينتهى الأمر»، رنا إليه وهو يحبس الدموع فى مآقيه: «لست مقترفًا ذنبًا حتى أعتذر».
وبدأت حملة الترهيب، ستُحرم من المصروف اليومي، لن يسمح لك بلعب الكرة، سنعطى كلبك لأحد المعارف، فيأخذه إلى مزرعة نائية، ولن تراه بعد اليوم.. عند التهديد الأخير، انخلع قلبه حقًا، أحس بأن صدره يلتوي، لكنه لم يستجب، هز رأسه رافضًا.
صحبه عمه إلى جولة، قدم له «الجيلاتى بالمستكة»، الذى أحبه وما زال، فى محاولة لتهدئته، غير أنه ما إن عاد إلى البيت، تمترس خلف موقفه المتشدد مجددًا: «لن أعتذر».
رمقته أمه بعينيها العسليتين نظرة رجاء، إنه ضعيف أمام عينى أمه، لكنه لم يقترف إثمًا، لا يحب لى ذراعه، وإرغام أنفه، وتلاقت العينان بعض وقت، سرت فى خلاياه قشعريرة، تنازعته مشاعر متناقضة، إنه لا يحب أن يرى تلك النظرة الأسيفة، فى عينى «حبه الأول»، يموت إذا حزنت أمه، غير أنه واقعيًا لا يستطيع أن ينطق عبارة: «أنا آسف».
زاد الضغط عليه، شد أحدهم أذنه بيد فولاذية قاسية، حاول حبس دموعه، لكنها خانته فانهمرت حارةً، ليس ألمًا بل لأنه مقهور، كم يحتاج فى هذه اللحظة إلى أبيه، لقد سافر إلى منفى بعيد، يقتفى الرزق الحلال، سعيًا لتوفير حياة أفضل لأسرته الصغيرة.
فى شرايينه حديث مع أناه: «لو كان أبى موجودًا، لما تركهم يتنمرون علي، ويمارسون هذا القهر المتعسف».
صرخ فى وجه جلاديه متحديًا: «والله العظيم لن أعتذر»، نظر فى عينى أمه، ولم يتكلم، أراد أن يسألها: «كيف يا أماه تتركين هؤلاء ينكلون بصغيرك هذا التنكيل؟ هل أهون عليك؟.. إنى حقًا مفجوع».
هكذا أحس، ولما كبر قرأ لطرفة بن العبد: «وظلمُ ذوى القربى أشدُ مضاضةً على النفسِ من وقعِ الحسامِ المهنّدِ»، فدخل البيت الجاهلى قلبه مثل سكين مشرشر.
ها هى أمه ترمقه، وهو يرنو إليها بعينين مكسورتين، فجأة افترت شفتاها عن ابتسامة صغيرة، فتحت ذراعيها، ارتمى فى حضنها، كمشرف على الغرق أبصر من بعيد، زورقًا، طوقته بذراعيها، خبأ رأسه فى صدرها، قالت: «لا تريد الاعتذار لأمك.. هل كلمة آسف عيب؟»، فى تلك اللحظة انفجر باكيًا للمرة الأولى: «لم أقترف إثمًا يا أماه».
على أن تشبث الفتى بموقفه، لم يكن تشبثًا بباطل، ففى مواقف أخرى كان يتحمل مسئولية أعماله.
فى المدرسة كان إذا انزلق إلى حماقات الصغار، اعترف: «أنا الذى فعلت»... تهوى الخيزرانة على كفه فى شتاء الإسكندرية، ولا يكف عن فتح راحته للألم.
الأمر يرجع إلى «عقدة ذنب»... خرج من المدرسة ذات مرة، فلعب «عسكر وحرامية»، مع صديق، ولمّا استغرقته المطاردات، فتأخر عن موعد الرجوع، وجد أمه تنتظره على «قِمة الشارع» بلهجة مدينة الثغر، وفى عينيها تمتزج مشاعر الغضب والخوف، أمسكت راحته بقسوة: «أين كنت؟»، ساقه الخوف إلى رمى التهمة على صديقه: «لقد طاردني، يريد أن يضربني».
فى اليوم التالي، كان المدرسون يعاقبون صديقه إثر شكوى أمه.
كانت الخيزرانة تهوى على الصغير، الذى ما زال يتذكر ملامح الألم على قسماته حتى الآن، فتمزق قلبه هو، وفى أعماقه يهتف النداء: «أنا السبب.. أنا ظلمته.. أنا كذّاب».
منذ ذاك الحين، يتحمل مسئولية مواقفه، ويقر بأخطائه، ولا يعتذر عما لم يفعل.
لا يخشى من أن يقول للغولة فى عينيها: «يا غولة عيناكِ حمراوتان»، مواقفه هى مواقفه.
فى مراهقة غريرة، قرأ الكثير من السير الذاتية، استوقفه صمود عظماء التاريخ أمام الشدائد، ولسان حالهم: «فإما حياة تسرُّ الحبيبَ وإما مماتٌ يغيظُ العدا».
سقراط الذى أعطى شفتيه لكأس السم، بعد إدانته بالهرطقة، رافضًا الاعتذار عن أفكاره... سيدنا مصعب بن عمير، رضى الله عنه الذى استشهد فى أحد، وهو يحضن راية الإسلام... محمد كريّم، البطل المصرى حيث رفض أن يفتدى حياته بالمال، أمام نابليون بونابرت، الذى حاول ابتزازه فى تلك اللحظة العصيبة، والموت يحدق به.
يسأل نفسه: «هل أنا على هذه القوة حقًا؟ هل بوسعى أن أصمد أمام امتحانات قاسية إلى هذه الدرجة؟».
لا يعرف الجواب، لكنه دائمًا يتذكر الفتى الذى كان يحبس دموعه، وهو يصرخ فى وجه جلاديه: «لن أعتذر.. لم أرتكب إثمًا»، ويقول لنفسه: عسى ألا يكون الطفل قد تغير، مع مرور الزمن.