الأربعاء 24 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

حفريات حضارية

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
فذلكة
فى روايته «ملك الذباب»، تتحطم طائرة تحمل فقط صبية إنجليز من المجتمع الراقى خلال الرحلة على جزيرة صحراوية، يموت الطيار والمرافقون الكبار مباشرة ليبقى الأطفال العديدون الناجون محافظين على حياتهم فى الطبيعة البرية المتوحشة، وطيلة الرواية يحاولون تنظيم أنفسهم عن طريق إعادة إنتاج الأنماط الاجتماعية التى غرسوها. ولكنهم لا يلبثون أن يتحولوا إلى نوع من التوحش الغريب، يتهدم المجتمع الهش الذى شكلوه، ويتركون الطريق الطبيعى الذى سلكوه حسب سابق تربيتهم وتكوينهم تدريجيا لفائدة تنظيم قبلي، متوحش وعنيف مبنى حول زعيم كاريزمى ودين بدائى واستعداد شديد الغرابة للعنف. عروض قرابين، مطاردات، صيد، حروب دموية... وشيئا فشيئا نشاهد الحضارة وهى تختفى لصالح العودة إلى دولة قريبة من الحيوان الذى يدفعه الأطفال الأكثر هشاشة أو أكثر معقولية لوجودهم.
السؤال المطروح: هل يختفى خلف كل وجه بشرى ملائكى/طفولى/ حضارى وجه متوحش كهذا؟ وهل يحتاج إلى تحطم معين- طائرة مثلا- ليخرج الوحش من قوقعة الحضارة؟
تنويعات
يقف زيغمزنت باومان عند أحد المخاوف الكبرى للزمن الحاضر مشيرا إلى ولع القرن العشرين بالتدمير الكلي، الذى هو صياغة جديدة للولع الطبيعى للبشر بالتدمير عموما، ولع جديد خاص بالأزمنة الحاضرة يتجلى من خلال نقص الرشاد الذى يعترى كثيرا من طرق الإنسان الجديدة فى التفكير، وهو وضع كارثى نستدل عليه من خلال حربين كونيتين متقاربتين بشكل غريب، كأن هلع الاختفاء الكلى الذى من المفروض أنه ردة فعل قاعدية لدى إنسان جبل على غريزة البقاء، قد اختفى تماما. يقول باومان: إن «ما يهدد الكوكب فى القرن الحادى والعشرين ليس مجرد جولة جديدة من التدمير الذاتى (وهو سمة دائمة للتاريخ البشري)، وليس سلسلة طويلة أخرى من الكوارث (التى ضربت البشرية من حين لآخر)، ولكنه كارثة لإنهاء كل الكوارث، كارثة لا تترك بشرا وراءها ليسجلوها، ويستخلصوا درسا منها، ناهيك عن علم هذا الدرس وتطبيقه- الخوف السائل. 
وهو وضع يبدو أنه تم بتؤدة وأخذ له الوقت الكافى لكى يصل إلى ما نحن عليه وما هو عليه هو أصلا. فالاختيارات الحضارية التى نحن بصددها قد عملت على رسم خريطة للعالم فى إطار من شرعنة العدوان على الغير، عدوان ممنهج ومبرر اقتصاديا واجتماعيا، وحتى أخلاقيا من باب ضرورة شكل حضارى ما للدفاع عن إمكانية سيره قدما ولو باستعمال القوة، قوة يحدث فى عالمنا اليوم أن تتحول إلى الوصف «بالناعمة»؛ فى حين هى شكل عنيف من العمل الممنهج للسيطرة على الغير فى إطار الدفاع عن «النموذج الذى اخترناه لتسييره لكى نكتشف أننا اخترنا غيره وبأنه نموذج يسيرنا ولا نسيره». 
مما لا يمنع قول ديريدا بأن الموت كفعل يظل نهاية عالم متجددة فى كل مرة، نهاية موت بشكل فريد فى التاريخ غير قابل للتجدد أصلا، وغير قابل للتكرار، مما من شأنه أن يمنحنا مناسبة لتأمل هول الشر الذى تعودنا عليه- بتعبير حنى أرندت»- ديريدا: نهاية العالم، بشكل فريد متجدد-
الموت يملك وجها واحدا يواجه به الجميع؛ هل تراها نزعة ديمقراطية أم شمولية؟ 
يبدو أن التوحيد القسرى المزعوم لسمات الحياة الفردية فى إطار واحد ونموذج قابل للاستعادة هو السمة الأساسية للنظام الشمولى حسب طودوروف. وعلينا- على يد أخرى- أن نتأمل فوكو فى تحديده لعمل العقل هذا الذى يؤدى دائما إلى إضفاء شرعية معينة على عمله بحيث يمحو آثار عمله الضمنى وهو يصبغ عمله بالصبغة الرسمية، فينشأ عن ذلك بعدان يقف عندهما فوكو كعنوان من عناوين التنوير المعلن عنها: الاستخدام الخاص للعقل والاستخدام العمومي. أين يجب أن يتصف هذا العقل فى بعده العمومى المرتبط كثيرا بعنوان التنوير بوصفه نوعا خاصا من استخدام العقل، استخدام يتسم بالطواعية على المستوى العمومي، وقابلية أى شيء تحت راية النظام والدولة والمؤسسة والحكومة، فى مقابل الاستخدام الخاص للعقل الذى يصبح بغتة معقدا وصارما، وبين استخدام العقل كعنصر صغير فى جهاز كبير متعال عنا وعن عقلنا أيضا، من جهة، واستخدام العقل كأداة فريدة فردية غير متكررة يحدث التسليم بالاستعداد للتضحية بالعقل بشكل عقلى وعقلانى وبطواعية تامة لأجل «مصلحة» عليا هى نفسها التى تقودنا إلى الشمولية السياسية والاستبداد المطلق حسب توصيف تودوروف أعلاه.
الشرط الحصرى لكل هذا هو ظهور إنسان طيع؛ جاهل رغم ظاهر المعرفة، إنسان يعرف كل شيء ولا يعلم شيئا. فلقرون طويلة انتشرت فكرة أن أيسر السبل إلى استعباد الناس هو تسليط الجهل عليهم، القبائل البدائية كانت تعلم أبناءها قدرا قاعديا من المعارف التطبيقية الضرورية يفيد بشكل مباشر فى تعلم العد والحساب والعمليات الحياتية الفعالة التى لا تعطل المصالح اليومية للحياة القاعدية فى إطار تطلعات القبيلة التى هى سد حاجات الجسم اليومية بلا أفق حضارى كبير.
كذلك فعلت الحركات الاستعمارية التى كانت تتعامل مع الأهالى بمنطق تعليم كم صغير يتم استقطابه من الأهالى المؤهلين للتعاون مع المستعمر، ثم تتسلط على البقية الكبيرة الباقية بمنطق عديم الرحمة: منع التعليم، منع الحق فى التمدن، الاستبقاء فى فضاء الحقل حيث يتم استغلالهم كأجراء يوميين أو «خمّاسة» فى أحسن الأحوال مع وضع ألف عقبة فى وجه التعليم؛ حتى فى فرنسا التى كانت قد اعتنقت المبدأ النبيل الذى هو الحق فى التعليم المجاني، والذى أقره رجل «فاضل» اسمه جول فيرى هو نفسه مقرر مؤتمر جنيف ممثلا للسلطات الاستعمارية الفرنسية فى ملتقى كان يهندس لقرن كامل من تعاسة الجزء الجنوبى من الكرة الأرضية، ومن غريب الأمر أن تجد المنافح عن حق الجميع فى التعليم المجانى هو نفسه الذى يحاضر ويخطب فى الجموع مدافعا عن فكرة حرمان ملايين من الناس من التعليم خوفا من فساد المشروع الاستعمارى الأوروبى الذى كان يختصر كل أفكار الحضارة آنذاك.
خلاصة القول
أين يبدأ الخير وأين ينتهى ليبدأ الشر؟ حتى أنهما تداخلا حتى صار الحد بينهما غير واضح تماما؟ 
ملخص الفكرة - حسب تزفيطان طودوروف فى كتابه الهام «ذاكرة الشر والرغبة فى الخير»- هو أن جهنم التى كان يصورها الفكر الدينى والتى يخشاها الناس فينصاعون لتعاليم الدين يتم استبدالها بجهنم يمكن للناس أن يعاينوها فى واقعهم فيجبرون على الانصياع للدولة التى تقيهم هذا المصير وتضمن لهم الجنة الأرضية التى عناوينها الرخاء والاستقرار.