الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

المفكر الوجودي «كيركجور» والحقيقة الذاتية

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
يهتم الفكر الوجودى الذى قاده «سرن كيركجور» اهتمامًا أساسيًا بدراسة الوجود العينى للإنسان الفرد، ويتسم هذا الفكر بأنه يبدأ من الإنسان لا من الطبيعة، وينصب على الذات لا على الموضوع، وهذا على نقيض الفكر المجرد الذى يهمل دراسة الفرد فى سبيل ما هو عام، ويهمل الجزئى فى سبيل ما هو كلى. ويظهر الاختلاف بين الفكر المجرد والفكر الوجودى - تبعًا لرأى «كيركجور» - فى أن الفكر المجرد فكر نظرى ليس له علاقة بالوجود العينى، بينما الفكر الوجودى فكر عينى يمارسه الفرد من خلال فهمه لذاته ويصفه من خلال علاقته به، أى من خلال المقولات العينية التى يحياها بالفعل. ومن ثم تصبح مهمة المفكر الوجودى فهم ذاته لا عن طريق أن يفهم العينى بصورة مجردة، بل أن يفهم المجرد بصورة عينية. يقول «كيركجور»: «يهدف المفكر الذاتى Subjective Thinker إلى فهم التحديد المجرد للوجود الإنسانى العام Being بلغة الوجود العينى الجزئي».
يرى «كيركجور» أن المفكر الوجودى يهدف إلى توضيح طبيعة وجود الفرد ذاته وهدفه، وذلك بأن يمده بمقولات وجودية مستمدة من وجوده الفعلى ومن خبرته المُعاشة، إضافة إلى ذلك، فإن تحليل بنية الوجود يتم من خلال المفكر الذى انغمست ذاته فى عملية الوجود بحيث يصبح واعيًا بذاته فى هذه الحياة العينية. ومن هذا المنطلق، وجد «كيركجور» فى «سقراط» نموذجًا للإنسان الذى يكرس طاقاته لعملية التفكير التى يبرهن من خلالها على حقيقة وجوده العينى، ويؤكد أن هذا النموذج للمعرفة يظهر فيما يتعلق بالذات الموجودة التى تكون مهتمة بشكل لا نهائى بوجودها. هذا يعنى أن الإنسان ينبغى عليه أن يعرف نفسه قبل أن يعرف أى شيء آخر، وتلك هى البداية التى بدأ منها «سقراط» وعبر عنها فى المبدأ الشهير: «اعرف نفسك»، والذى وصفه بأنه نقطة تحول فى مجرى التاريخ، بل إنه «أوقف» هذا المجرى عندما افتتح عصرًا جديدًا ارتد فيه وعى الإنسان إلى نفسه لأول مرة، وجعل من «التهكم» مبدأ لحياته، فهو المعول الذى يحطم به العالم القديم كله ليبدأ من جديد، أنه «العدم» الذى لا بد أن نخلق منه البداية الجديدة. 
لقد بدأ «كيركجور» البداية الجديدة من «الذاتية» وجعلها الحقيقة الوحيدة الثابتـة، حيث استبدل بمقولة الكل فى الفكر المجرد، فكرته عن «الفردية» و«الذات المتجسدة»؛ فربط بين «الحقيقة و«الذاتية»، بمعنى أنه لا وجود للحقيقة إلا فى الذاتية. وهذه الحقيقة ترد إلى الحرية، ذلك لأن كل حقيقة يقررها الإنسان هى اختيار لذاته؛ فالإنسان يمارس حريته فى كل قرار يتخذه. وفى هذه الحالة، ترد الحقيقة إلى البذور الأولى العميقة للشخصية الفردية. و«الحقيقة الذاتية»، كما يراها «كيركجور»، وثيقة الصلة بالإيمان الدينى، حيث رأى أن الذات فى حالة توتر دائم، وحيرة مطلقة يغذيها الإيمان ويدفعها إلى التعلق بموضوعها المتعالى. ومن ثم تصبح حقيقة الوجود هى «الاختيار» و«الصيرورة»، و«حياة الوحدة والتفرد»، و«الانشغال بالذات»، و«الشعور بالخطيئة»، و«الوجود أمام الله». لقد حاول «كيركجور» أن يصوغ هذه الأفكار، وأن يضع منهجًا للحياة، أساسه البحث عن حقيقة الإنسان ومحاولة تحقيق وجوده العينى الفردى. ومن هنا جاءت فلسفته تعبيرًا خاصًا عن وجوده الخاص وتجربته الذاتية العميقة، فاستطاع أن يفلسف حياته ويحيا فلسفته أملًا من وراء ذلك أن يصل إلى حقيقة الذات، أى تلك الفكرة التى يجب أن يحيا ويموت من أجلها يقول: «أريد أن أجد حقيقة تكون لى، أن أجد الفكرة التى يجب أن أحيا وأموت من أجلها».
من الممكن أن ننقد وجهة نظر «كيركجور» عن الحقيقة الذاتية بأنها وجهة نظر فردية أكثر مما ينبغى، وإن كان هذا الاتجاه صححه بعض الفلاسفة الوجوديين المتأخرين من أمثال «نيقولا برديائيف» و«جبرئيل مارسل»، لكنهما كانا واضحين، وضوح «كيركجور» نفسه، فى قولهما بأن: «الحقيقة لها دائمًا بُعّد شخصي» وإن كانا على وعى أفضل بالطابع المشترك لمعرفتنا، وبأن «الحقيقة» تعتمد على جماعية الصدق. وكان «مارسل» بصفة خاصة هو الذى كشف عن هذه الخاصية، فهو الذى وجد أن تعاليم الفيلسوف المثالى الأمريكى «جوزيا رويس» هى التى عرضت هذه الفكرة، لا سيما نظريته فى جماعية التفسير، فيرى أن فريق العلماء الذين يتابعون بحث موضوعًا ما يتشكل من خلال روابط الأمانة الشخصية التى تضمن تكامل البحث، بقدر ما يتشكل بسعى هذا الفريق إلى بلوغ حقائق موضوعية تكتسب نتيجة لبحوثه، ثم تدون فى كتب مدرسية، فالفكرة الشاملة للحقيقة (إن جاز هذا التعبير الهيجلى) لا تنطوى فقط على مجموع القضايا التى تأتى فى نهاية البحث بل تنطوى أيضًا على الجهود الشخصية، التى تتسم بالحرية والإخلاص والصراع التى تؤدى إلى الحقيقة.