الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

مقامات الطهطاوي وتربية الرأي العام

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
لم يخاطب التنويريون الجمهور بلسان واحد – سواء فى أوروبا أو الشرق - بل جعلوا خطاباتهم بثلاثة مستويات أو ضروب، أولها موجه للطبقة الوسطى التى أرادوا تشكيل عقلها باعتبارها الآلية المحركة والقوة الدافعة لأفكارهم والمنوطة بتنفيذها عند تحويلها إلى مشروع. والضرب الثانى للولاة أو الحكام وكان هدفهم الأول هو طمأنة هذه الطبقة الأرستقراطية وتبيان أن خطاباتهم ليست معادية أو مناهضة لسلطانهم، بل هى فى المقام الأول تدعيم لملكهم وإصلاح دولتهم، أما الضرب الثالث والأخير فكان موجها للعوام أو الجمهور، لذا جاء فى ثوب بسيط من حيث لغته وعرض التصورات والقيم، حتى لا يكون الجمهور معوقًا لرسالة التنويريين سواء فى ثوبها الخطابى أو فى طور التطبيق والخطوات التنفيذية.
وينطبق هذا التنظير على التنويريين والنهضويين والإصلاحيين فى مصر وبلاد الشام خلال القرن التاسع عشر، وقد سلك رفاعة الطهطاوى (١٨٠١ – ١٨٧٣ م) هذا الدرب منذ عودته من باريس عام ١٨٣١ وكان كتابه «تخليص الإبريز فى تلخيص باريز» موجها إلى الصفوة من رجالات الطبقتين الوسطى والأرستقراطية المتمثلة فى شيوخ الأزهر وطلابه والوالى وحاشيته ومعيته من قادة الرأي، وقد وجه معظم مؤلفاته المتتابعة إلى تلاميذه وطلابه من خريجى ديوان المدارس أو إن شئت قل مؤسسة التربية والتعليم آنذاك، فعلى صفحات مجلة «روضة المدارس» التى ظهرت عام ١٨٧٠ م، كتب رفاعه مقالاته فى التربية والتعليم والإصلاح الاجتماعى بأسلوب أقرب إلى السرد وطرح الحوار والوضوح والسلاسة فى العرض والمعالجة وبلغة لينة رغم رصانتها، وبرهن فيها على انتمائه للوجهة الأشعرية فى العقيدة والإخلاص للقصر، والرغبة فى تثقيف الرأى العام القائد وتبصيره بوجهته الإصلاحية، وبذلك تلافى العديد من معوقات الخطاب من جهة، وتجييش تلاميذه لحمل الرسالة كما ذكرنا من جهة أخرى، أما الجمهور الممثل للرأى العام التابع فقد خصص لهم خطابه القصصى الذى ظهر فى ثوب ترجمته لكتاب «مغامرات تليماك» للمفكر الفرنسى «فيلون» (١٦٥١ – ١٧١٥) أحد مؤدبى الطبقة الحاكمة فى فرنسا وواحد من أذكى التربويين الغربيين فى القرن الثامن عشر.
غير أن رفاعة لم ينقل الكتاب إلى العربية كما هو، بل تدخل بقدر موفور بداية من التسمية ولغة العرض ومرورًا بتوضيح المضمون وتبيان الأفكار وتبسيط المقاصد، ونهاية باستبعاد ما لا يتلاءم مع الثقافة المصرية وعاداتها وتقاليدها وقيمها، واستحق بهذا العمل أن يكون رائدًا لفن التعريب وأدبه، ومثلًا يحتذى فى تطبيق أخلاقيات التصنيف التى ننشدها فى أيامنا هذه.
وقد كتب هذا المُؤلف فى الفترة من (١٨٥٠ إلى ١٨٥٣) أثناء نفيه فى السودان – فى عهد الخديو عباس الأول (١٨١٣ – ١٨٥٤) الذى تولى حكم مصر فى الفترة من (١٨٤٩ – ١٨٥٤)- وأطلق عليه اسم «مواقع الأفلاك فى وقائع تليماك» وألبسه ثوب المقامة (وهى عبارة عن قصة قصيرة مسجوعة تشتمل على عظات بأسلوب مرح وكان الأدباء يظهرون فيها براعتهم اللغوية فى القرن السادس الهجرى وقد أحياها التنويريون والمصلحون وأدرجوها ضمن أعمالهم الأدبية ولا سيما فى العصر الحديث)
والجدير بالإشارة أنه كشف عن نهجه الذى سلكه فى معالجة هذا الكتاب فى مقدمة الترجمة قائلًا: «أديت التعريب بأسهل تقريب وأجزل تعبير، وتحاشيت مما يورث المعانى أدنى تغيير، ويؤثر فى فهم المقصود أقل تأثير، اللهم إلا أن يكون مخلًا بالعادة، فاكتفى باستنباط المعنى وتوضيح مضمونه بعبارات على أكمل إفادة، عساه أن ينفع فى سائر البلاد المشرقية التلاميذ».
كما بين أن مقصده من ترجمة هذا الكتاب هو الانتفاع بما ورد فيه من قيم أخلاقية وأساليب تربوية داخل الحكايات المسلية التى تعمل على إثراء القراء بتعابير بيانية ولغوية.
أما عن مضمون الكتاب فى لغته الأصلية فيحوى رحلة شاب يدعى «تليماك» جاب البحار والبلدان والجزر بحثًا عن أبيه عولوس ملك طياكى الذى خرج وخلف وراءه مملكة يحكمها وزوجة فاتنة الجمال تدعى «بنلوبس» وكانت امرأة عفيفة ووفية تعشقه وتخلص له ولم تيأس من عودته سالمًا، وجميع أحداث الرواية الأصلية قد اقتبسها المؤلف من الأدب الهومري، وقد ألفه عام ١٦٩٩ م خلال عمله كمؤدب لولى عهد فرنسا وإخوته، فأراد تثقيفهم بآداب اليونان وأخلاقهم وسياستهم بأسلوب شائق، ويبصرهم بتاريخ الأمم ويعلمهم آداب الملوك ومسئوليات الحاكم وواجبات الملك.
وسوف نكشف فى المقالات التالية عن مواطن الأصالة والجدة والطرافة التى أضافها الطهطاوى خلال تعريبه وصياغاته للمقامات الثلاث والعشرين التى اشتمل عليها الكتاب الذى بلغ عدد صفحاته ٧٩٢ صفحة من القطع الكبير، وسوف نشير من حين إلى آخر إلى مواطن الهمز واللمز ونقد الطهطاوى لثقافة عصره، تلك التى جاءت مستترة خلف الثوب القصصي، ذلك فضلًا عن المسحة الإسلامية التى ألبسها لبعض الوقائع والأحداث.
وسوف ننتزع القيم الأخلاقية والدروس السياسية – وهى هدف الطهطاوى الأول من الترجمة – من سياقاتها القصصية وذلك لإبرازها وإلقاء مزيد من الضوء عليها باعتبارها كانت وستظل أبدًا إحدى وأهم آليات الاستنارة والإصلاح التى نفتقر إليها الآن، وحقيق بى أن ألفت نظر شبيبتنا إلى قدرة الطهطاوى على تحويل المحنة إلى منحة فلم يقف مكتوفى الأيدى ناعيًا حظه أثناء النفى بل ظل مخلصًا لرسالته وأخرج لنا هذا الكتاب، وحرى بى أيضًا أن أوجه نظر الإعلاميين لأهمية هذا الكتاب باعتباره الإرهاصة الأولى للخطابات التوجيهية للرأى العام التابع، وخليق بى أن أحث شبيبة الباحثين على ضرورة عقد عدة دراسات لهذا الكتاب من زوايا مختلفة (فن الترجمة والتعريب، أدب المقامة، فى التربية والتعليم، صياغة قصص الاطفال).
وللحديث بقية عن مقامات الطهطاوى التوجيهية.