الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

الخلود للمتحرك

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
فذلكة
تُحيلنا تعريفات الحداثة ومحاولات وضع اليد على نقطة بدايتها على عدة علامات ومحطات هامة؛ فهابرماز يجعل الحداثة بنت عصر الأنوار. وسوزان بيرنار تربطها ببودلير فتجعلها وليدة القرن التاسع عشر. فى حين أن الباحث بيتر فولكنر يجعلها مجموعة رجات معرفية وجمالية ظهرت فى الفترة ما بين 1910م و1930م. وهو رأى يرفضه بيتر بروكر، الذى يجعلها وليدة الفترة الممتدة بين 1880م و1950م. رافضا بذلك رأيا آخر جعل الحداثة مولودة فى الربع الأول من القرن العشرين دون تحديد أكبر، ويميل بروكر إلى القول إن تاريخا مثل سنة 1922م قد يكون أهم ما فى الفترة المذكورة سابقا (1880 - 1950) بسبب الأعمال الثورية الطلائعية الحداثية التى عرفها هذا العام: الأرض الخراب (ت. س. إليوت) والبحث عن الزمن المفقود (لمارسيل بروست) والنسخ الأولى ليوليسز (جيمس جويس)، والأعمال المركزية لجمهرة أخرى ممن وسموا الأدب والفكر وعالم الكتابة بمسيمهم: د. هـ.لورنس، ألدوس هكسلى، عزرا باوند، فيرجينيا وولف، بيرغسون، السيرياليون...الخ...وكلها اتجاهات أدبية أو أعلام أدبيون كانوا نشطين فى تلك الفترة، وبعضهم نشر عمله المحورى فى تلك السنة تحديدا. 
يقول رأى آخر إن الحداثة لم تتجل طوال العصور السابقة إلا مرتين فى مكانين وزمانين متباعدين، واحدة فى اليونان (الحداثة الزراعية)، والثانية من خلال تجلى الحداثة فى القارة الأوروبية (الحداثة الصناعية). 
تنويعات
من الهام أن نعاين التصور الذى شكله عن الحداثة منظرو ما بعد الحداثة، وهو التصور الذى لا يخلو من أهمية إذا ما استحضرنا فكرة كون ما بعد الحداثة توجها جاء معاكسا للحداثة مصححا تهافتها ومعارضا مبالغاتها ونقص الفعالية أو نقص الواقعية، الذى وسمها على امتداد قرن كامل.
جاءت الحداثة كمشروع مخلص لإنسان الظلام كى يدخل مراحل الأنوار، وكمنظومة عقلانية تقطع الصلة بالماضى، وتحصر مجال المناورة فى الحاضر، وفى الحاضر فقط، محولة التراث إلى مادة خام يعمل عليها كاتب الحاضر ليحولها ويطوعها ويستخرج منها الجديد البديع المفارق، فاحتفت نتيجة لذلك بالتجربة الشخصية، ذلك أنه إذا كان المعنى لا يتكئ على التراكم الدلالى عبر التاريخ، فإنه يجب عليه أن يكتسب كثافة سريعـة، تلك هى التى ارتبطت بالتجربة الذاتية التى تمنح نتائج سريعة «آنية»، إلا أن تعدد «الآن» وحركته السريعة أوقعت الوعى الحداثى فى حرج كبير حلته بالاتكاء على مقولة بودلير -الآتية من الفلسفة الإغريقية - «الخلود للمتحرك». فأصبح هنالك احتفاء بالضرورة الدائمة للأشياء كإمكانية وحيدة للسيرورة المثلى.
أما بعد الحداثـة فجاءت لتقلب مقولات الحداثـة وفرضياتها تماما: ليس هنالك ثمة ثابت يحكم المتحول، وليس ثمة عقل يفسر تفسيرا غير متحيز أوجـه النشاط البشرى، كما لا وجود لثقافـة عاليـة نخبوية وأخرى دونية جماهيرية. بل كل ما هنالك هو تشكيل مستمر لا يمكن تبريره أو تفسيره بالإحالة على أنموذج متعال، وإنما يقبل التفسير فقط من داخله مما يجعل التفسير نفسه محكوما بأشكال مادته الخاصة، وليس نتيجة ثوابت لا تتحول أو تتبدل. 
فالحداثة من هذا المنظور ما بعد الحداثى تبدو انتصارا للذات علـى الموضوع المطروح للوعى، أما ما بعد الحداثة فتنتصر للموضوع على أساس كونه هو محل التبدل وموقع طقوس التحول «الحداثى» وليست الذات القارئة، ومن جهة أخرى على أساس كون الثابت شكلا للتحول يتحكم بمادته فى عملية التفسير، وهذا ما يجعل ما بعد الحداثيين - كما نعرف - متفتحين على الحوار مع الأشكال القديمة للوعى، كمحاولة لاسترجاع ركام التفسيرات التى رمت به الحداثة عرض الحائط. 
كما يلاحظ ما بعد الحداثيين أن الحداثة نادت بشعارات خلابة مثل الحريـة والمساواة والإيمان بقدرة الإنسان العقلية وعالمية الجهاز الإدراكى، فكان من أهم نتائج هذا التوجه محاولة الهيمنة والسيطرة على القوى الطبيعية وعلى الطبيعة عموما، كما آمنت إيمانا قاطعا بالقدرة الإنسانية على فهم العالم والحياة والذات والتقدم الأخلاقـى وإدراكـه، وآمنت بإمكانية حلول العدل وتحقق سعادة الإنسان، وهكذا كان من الطبيعى أن تتمحور شعاراتها وثوابتها حول مثالية مغرية علـى كافـة المستويـات: فكرة التطور والتقدم والرفاه الإنسانى، والإيمان بمستقبل أفضل، والتحصيل المعرفـى والتصنيع والصناعة والتحضر والتقدم التقنى وتطور الدولة القطرية الوطنية، وأعلت من شأن المهنة المتخصصة والمنصب والمسئولية الفردية وشحذت آليات البيروقراطية ودعت للديمقراطية الليبرالية ولنشر روح التسامح والمذهبيـة الإنسانيـة والمساواة العرقيـة والاجتماعية والاقتصادية. كما أشاعت أهمية التجارب المتجردة والإيمان بالمعايير التقويمية والإجراءات غير المتحيزة وتبنت أهمية القواعد المقننة التى لا تخضع للميول والنزاعات الشخصية. كل هذه السمات كانت تدين للعقلانية المطلقة (دليل الناقد الأدبى). 
إن هذا الكلام يختصر كثيرا من الكلام؛ لأنه يحاول جمع السمات السائدة كلها لوضعها على يد واحدة تسمح لهم باستنباط قيم ما بعد الحداثة الموضوعة على اليد الأخرى، وما يهمنا هو الكم الكبير من المتناقضات التى جمعتها الحداثة تحت مظلة واحدة، فنحن هنا نقرأ كلاما عما يشبه النزعة المؤسساتية «البيروقراطية» المتطرفة، بعدما تحدثنا عن نزعة الفوضى والاعتباط والانفتاح على اللاوعى.

مجمل القول
إن الوقوف ضد يقينية المفاهيم وكذب الحقائق والشك فى الركون إلى معانى اللغة المرتبة المنظمة الممنهجة، والشك فى التاريخ وفـى خطيـة الظواهر وتسطحهـا وتراكمها الزمنى... إلا أن كل ذلك يدخل تحت مظلة واحدة، وتفسير ذلك هو أن الحداثة لم تأت منهجا متكاملا وبناءً تاما نكشف أجزاءه بالمعاينة، وإنما جاءت كمشروع لتقويض عناصر العالم القديم ومكوناته، سواء منها السياسـى والاجتماعـى والثقافـى والمنهجـى العلمـى والفكرى الاجتهادى، والاقتصادى، والمؤسساتـى والعقيدى؛ اللائكى ضد الكنسى، الجمهورى ضد الملكى، التجريبى العلمى ضد العقيدى الظنى الترجيحى المنهج الوضعى ضد الفلسفة الميتافيزيقية التعدد ضد الأحادية، اللاشعور الكشفى ضد التاريخى المتوارث، الفرد المستقل ضد الجماعة المنقادة، الشاعر المجنون ضد مهرج الملك،... الخ. فالحداثة كائن دائم التنافى لذلك نجد الحداثيين اللاتين (ثم السرياليين بعدهم) يبدأون ضد التنظيمات لكى يتحولوا إلى متحزبين شرسين دون تغيير زوايا تفكيرهم وأدواتهم الإبداعية ومقولاتهم التقويضية لكل ما هو رجعى.