الأربعاء 24 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

الوجودية وحقيقة الإنسان

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
اتخذت «الفلسفة الوجودية» نقطة بدئها من الإنسان، أو من الوجود البشري، ونحن لا نقصد بالوجود البشرى أو – كما يسميه «هيدجر» بالوجود الإنسانى فى العالم – ذلك الحيوان الناطق كما كان يدعوه «أرسطو»، أو ذلك الإنسان المجرد الذى يمثل «كل البشر»، بل نقصد به ذلك الإنسان الفرد الذى يتفاعل مع الوجود والحياة من خلال «تجربته الحية»، والذى لا يستطيع أحد غيره أن يحل محله فى هذه التجربة.
والوجودية بهذا الاعتبار رد فعل قوى ضد التيارات العقلية التى صبغت الفلسفة فى عصورها القديمة والحديثة على السواء. فإذا كانت هذه الفلسفات قد نظرت إلى «الآنية» أو «الكينونة» من خلال النفس الناطقة أو العاقلة فقط – الأمر الذى عبر عنه «ديكارت»، كما سبق القول، أصدق تعبير فى الكوجيتو «أنا أفكر إذن أنا موجود» – فإن الفلسفات الوجودية ترد على هذا الموقف بقولها على لسان «كيركجور» – الأب الحقيقى الأول للوجودية – «كلما ازددت تفكيرًا قل وجودي»، وذلك من أجل أن توضح أن الإنسان يستطيع أن يؤكد ذاته ووجوده فى الحياة من خلال «المواقف» التى يجد نفسه منخرطًا فيها، بوصفه ذلك الكائن البشرى الموجود فى العالم؛ ومن خلال ذلك الاختيار الحر الذى يميز الإنسان فى تاريخ الفلسفة مثل: عدم التفرقة التى أقامها الفلاسفة العقليون وأصحاب نظرية المعرفة بين الذات والموضوع، فالإنسان فى نظر هؤلاء «ذات عارفة»، أما الأشياء فهى «موضوعات للمعرفة» أى أنها موضوعة أمام الذات لتعرفها أو لتلتهمها التهامًا على حد تعبير «جان بول سارتر» فى كتابه «الوجود والعدم».
لقد أصبح الإنسان على يد الفلاسفة الوجوديين يمثل ذلك الكائن البشرى الموجود فى العالم ووسط الأشياء، ولم يعد مجرد ذات عارفة. ولهذا نجد «مارتن هيدجر» يقول: «إن الفيلسوف الحق هو الذى يحب معاشرة الأشياء، ويطيل الإقامة بينها ووسطها ويستمع إلى همسها فى تعاطف ودي».
وكلمة «فلسفة» التى تعنى لغويًا «حب الحكمة»، أصبحت تدل عنده على معنى آخر، إذ إنها تتألف من كلمتين: من «سوفيا» وهى مشتقة من «سوفوس» باليونانية وتعنى الشخص الألوف الذى يحب معاشرة الأشياء ويجد فى ذلك متعة تقربه لا من الأشياء فحسب، بل من نفسه أيضًا. وتتألف كذلك من كلمة «فيليا» وهى تدل على التعاون أو التعاطف المشترك، وبذلك أصبحت كلمة «فلسفة» تعنى فن معرفة النفس عن طريق الاستماع إلى الأشياء.
فسّر «هيدجر» الفيلسوف الألمانى الشهير، العلاقة بين الحقيقة والحرية وتفتح الوجود البشرى، وكشف عنها فى مقاله: «حول ماهية الحقيقة». فالمرء يمتلك الحقيقة بمقدار ما يكون حرًا، وهو يكون حرًا بمقدار ما يكون منفتحًا على الأشياء على نحو ما هى عليه بحيث لا يعيد تشكيلها، وإنما يشارك فى انفتاحها فحسب، ويعود «هيدجر» مرارًا إلى تصور اليونان للحقيقة بوصفها «اللا تحجب» وهى تعنى حرفيًا «عدم الاختباء»، فالحقيقة «تحدث» – إن صح التعبير – عندما تنزاح الحُجب وتظهر الأشياء فى تفتحها. غير أن ذلك يعنى أن الحقيقة تضرب بجذورها فى الوجود البشري، أى فى الوجود المتعين وفى الذاتية، لأن الوجود المتعين هو الضوء فى عتمة الوجود، والإنسان هو المكان الذى يحدث فيه الانفتاح، وبالتالى فهو يوجد «فى الحقيقة» بفضل واقعه أنه يوجد خارج ذاته.