الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

في الجغرافيا والصراع الدولي

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
كان الصراع على المنطقة، ولا يزال صراعًا، على مواقع استراتيجية وأراضٍ ومصادر للثروة، وهيمنة سياسية. وقد كان من دواعى الانكشاف والوهن العربيين، غياب القدرة على التصدى للأطماع الدولية، فى ظل انفراط التضامن العربى والأمن القومى الجماعى، وأيضًا فى ظل التغيرات الهائلة التى طرأت توازنات القوة.
لقد كانت الجبال والحصون المنيعة فى العصور القديمة ضمانًا لحماية المدن، لكن التطور الهائل فى مجال التسلح، أوجد حقائق جديدة. فالحروب الحديثة تدور بأسلحة من نوع مختلف عن تلك التى استخدمها الإنسان فى الماضى.. إنها تدور بالصواريخ والدبابات والطائرات وقاذفات القنابل، كما تدور بالمخابرات وجمع المعلومات. وتخضع لنظام اقتصادى عالمى يقرر اللحظة المناسبة لضخ أمواله، ومتى يخضع البلاد لمضاربات السوق، ويقرر أيضًا اللحظة التى يسحب فيها تلك الأموال، ويهدد اقتصاد البلاد من الداخل فى غفلة أهلها وانشغالهم.
وكانت البحار من أسباب استتباب السلام والرخاء، وأيضًا سببًا فى الأطماع والحروب. وهكذا رأينا أن المواقع التى شهدت انبثاق الحضارات المصرية والفينيقية واليونانية والرومانية القديمة كان معظمها فى البحر المتوسط، وقد شهدت أهوالًا وحروبًا، أودت بحياة الآلاف من البشر.
وكما كان الموقع سببًا فى رخاء أثينا، وتحقق نهضتها، كان أيضًا سببًا فى دمارها واضمحلال دورها. فكون المدينة مفتوحة من جهة البحر، قد سهل على الغزاة احتلالها واستباحتها.. وكما كان هذا البحر مكمن سرها الذى باحت به لسائر البشرية، كان الوسيلة التى انتقلت من خلالها علوم وتجارب المصريين من الجنوب والفينيقيين من الشرق؛ حيث كانت القوارب تمخر من حوض البحر المتوسط، لتصل إلى حاضرة اليونان ناقلة العلوم وآخر الأخبار.
ولعل من نافل القول الإشارة إلى أنه يكاد لا يوجد بيننا من لم يسمع عن حضارات المتوسط، فى حين تغيب عنا إنجازات الحضارات المقفلة وإبداعاتها.
والجغرافيا تبعث على تنوع الأوضاع أكثر مما تبعث على الوحدة. ولذلك، فإنه لا يمكن أن يكون الحديث متطابقًا عند التعرض للمجتمعات الكثيفة السكان على أرض مصر، التى عرفت الرى منذ خمسة آلاف عام، ومجتمعات مناطق الزراعة غير المروية المتناثرة أو مجتمعات الرعى فى الصحارى الإفريقية وفى شبه الجزيرة العربية.
وحين جرى التخطيط لاغتصاب فلسطين، كانت أهمية الموقع فى القلب من مشروع الاغتصاب، فعلى سبيل المثال، جاء فى رسالة اللورد روتشيلد إلى رئيس وزراء بريطانيا بالمرستون: «إن هناك قوة جذب متبادلة بين العرب وعودة مجدهم المرهون بإمكانات اتصالهم واتحادهم. وأن فلسطين هى الجسر الذى يصل بين مصر وبين العرب فى آسيا.. فلسطين هى بوابة الشرق؛ حيث يجب زرع قوة عدوة لتكون حاجزًا». وفى وثيقة كامبل نيرمان يرد النص التالي: «إن من يسيطر على الشواطئ الجنوبية والشرقية للبحر المتوسط يسيطر على العالم، وأن الخطر الأكبر يكمن فى الشعب الموجود على شواطئه، نظرًا إلى ما يتوفر فيه من مقومات الترابط». ولذلك توصى الوثيقة بفصل الجزء الأفريقى عن الجزء الآسيوى عبر إقامة حاجز بشرى قوى وغريب على الحسر الذى يربط بين الجزأين، فى فلسطين.
ويصح أيضًا القول، إنه بالقدر الذى يكون فيه الجوار عامل جذب خلاق، فإنه يكون عامل صراع ونفور. ويبرز ذلك بوضوح فى الصراع المرير الذى طبع العلاقة بين الإمبراطورية الفارسية وبين مختلف الحضارات التى تعاقبت على العراق من سومرية وبابلية وكلدانية وعربية. وكذلك الصراع المرير فى العصر الحديث بين فرنسا وألمانيا وتركيا واليونان.. بما يعنى استحالة قيام حضارتين متكافئتين متجاورتين، وفى مرحلة تاريخية واحدة من دون أن تكون هناك صراعات وحروب.. إن صعود حضارة مجاورة، ضمن هذا التصور، يستلزم بالضرورة إما استمرار الصراع بينهما، أو تداعى إحدى تلك الحضارات لصالح الأخرى.
الموقع الجغرافى، فى الأغلب، يعيش حالة ثبوت نسبى. ولذلك يصبح صحيحًا القول إن الدول، على عكس الأفراد، لا يمكن أن تختار جيرانها؛ إذ ليس فى إمكانها أن تنتقل بموقعها أو تجبر جيرانها على تغيير مواقعهم. ولم يحدث عبر التاريخ القديم أو الحديث، أن جرت إبادة جماعية لجنس من البشر، تمكنت من استئصال شافة الشعب المستهدف، إلا فى حالات تبدو نادرة جدًا، كإبادة الهنود الحمر فى أمريكا، وتشريد الشعب الفلسطينى من دياره، وما حدث للأرمن فى بلادهم على يد الأتراك.. وحتى هذه الأمثلة تبدو موضع سؤال ما دامت تلك الشعوب مستمرة فى نضالها لتحقيق التحرر والانعتاق.
وهكذا، فإن علاقة الجوار هى سلاح ذو حدين.. فهى عامل قوة حين تكون العلاقات متوازنة، وحين يؤخذ فى الاعتبار المصالح المشتركة للمتجاورين، وهى عامل ضعف حين تطغى قوة على أخرى. والأراضى المجاورة، هى فى الأغلب، الطرق التى تعبر منها جيوش الاحتلال، وهى من مسببات تسهيل عمليات الاختراق. فلكى يتم لجيوش الغزاة احتلال أراضى دولة ما، فإنها تحتاج مواطئ قدم وممرات وطرق تعبر من خلالها إلى أراضى الدولة المستهدفة بالاحتلال.
ومع ذلك، فإنه لا بد من التسليم بأن حالة الجوار هى القدر الجغرافى الذى على الدول أن تعيش وتتعايش معه. والحدود الإقليمية لدولة ما هى بطبيعتها أطراف رقعتها السياسية، تمثل خطوط توازن القوة وجبهات التحام الضغوط السياسية على جانبيها، وفيها تتحدد المداخل والنقط الاستراتيجية الحاسمة.
نقلًا عن «الخليج» الإماراتية