السبت 27 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

حقيقة الإنسان

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
هل استطاع الإنسان من خلال تمركزه حول ذاته أن يفهم نفسه وأن يكون على وعى تام بها؟ كيف يمكن أن يعرف حقيقة الكون الذى يحيا فيه؟ صحيح أن الإنسان يبحث عن نفسه، ولكنه لن يتمكن من العثور عليها بحق إلا إذا تجاوز عالمه الكلى، وبحث من أجل استكشاف ما فى ذاته من أغوار مظلمة.
إن الإنسان – فى الثقافة اليونانية – يستطيع أن يعرف ذاته (أى نفسه) معرفة بالفعل وليس بالقوة، معرفة مرتبطة بالوجود الخارجى فحسب. فقد كانت الصدارة والأولوية للوجود على الوعى بالوجود، ولذلك أصبح مضمون «الأنا» موجودًا عند الإنسان اليونانى القديم، لا لأنه يفكر، بل لأن لديه يدين ورجلين وأحاسيس، ولأنه يمشى ويجرى، ولأنه يرى ويحس. إنه يفعل كل ذلك ويعرف أنه يفعل كل ذلك، لكنه لم يفكر أبدًا فى وجوده من خلال وعيه بهذه الإحساسات أو من خلال تأمله الانعكاسى وتفكيره المنبثق من داخل نفسه. باختصار نقول، إن قضية «أنا أفكر، إذن أنا موجود» – وهى القضية التى تستقطب الوعى بالذات فى الفلسفة الحديثة – كانت بالنسبة إلى الإنسان اليونانى، قضية خالية من المعنى.
ويُعد «هيرقليطس» من أوائل الفلاسفة الذين قدموا تصورًا جديدًا للنفس، كانت البداية الحقيقية فى طريق طويل، أدى إلى قيام مفهوم الوعى بالذات، وصورة الذات بالمعنى الفلسفى الحديث؛ كما صرح بذلك أستاذنا المرحوم الدكتور محمود رجب، فى بحثه القيم عن «صورة الذات فى الفلسفة». وقد أطلق «هيرقليطس» على حقيقة النفس وحقيقة الكون على السواء، اللفظ اليونانى «لوجوس» Logos أى «الكلمة».
أراد «هيرقليطس» تعليم الإنسان هذه الكلمة وحسن الاستماع إليها، حتى يساعده على التوافق مع الكون والمدنية، طالما أن حياة الإنسان لا تسير ضرورة، إلا فى داخل «صيرورة» من أشكال الطبيعة وسياسة دولة – المدينة، أو هى لا تكون إلا متوقفة على ما هو عام وكلى، فإذا تحقق هذا التوافق – وهو فى الوقت نفسه تناغم وانسجام – تحقق شرط التفلسف ألا وهو: الحب المعبر عنه فى المقطع الأول من الكلمة اليونانية «فيلو – سوفيا» (حب – الحكمة) وصار الإنسان عندئذ «إنسانًا فيلسوفًا»، غير أن «هيرقليطس» كان يقرن تعلم «الكلمة» بالبحث عنها أى بالمنهج، وهو يُعد أيضًا طريقًا يؤدى بمن يسير فيه إلى الغاية المطلوبة، وكأنما المنهج – فى جوهره – رحلة أو سفر فى النفس وفى الكون معًا من أجل اكتشاف الحقيقة.
ولم يتسنى للإنسان أن يعرف حقيقة الكون إلا إذا أدرك حقيقة نفسه، ولما كان متضمنًا هو ذاته فى الكون ومرتبطًا به ارتباطًا عضويًا، فليس ثمة إذن «ذات» من ناحية و«موضوع» أو «موضوعات» من ناحية أخرى؛ فـ «الذوات» و«الموضوعات» متضمنة جميعًا فى سيال الصيرورة الكلية المتدفق، والذى يحاول الإنسان جاهدًا أن يفهم معناه. وقد تطورت فكرة الشخصية والتعمق فى إدراك الهوية أو الذاتية التى توحد بين الإنسان وبين حياته الانفعالية والعاطفية، وأصبح الجو الثقافى فى اليونان أكثر استعدادًا لقبول ذلك التصور الجديد للنفس. ولا شك أن «سقراط» بشخصيته وتعاليمه، و«أفلاطون» بمحاوراته وخاصة «الجمهورية»، قد عملا على ترسيخ هذا التصور للنفس ورواجه بين الناس، حتى صار ركنًا أساسيًا من أركان الثقافة اليونانية فى ذلك الوقت؛ فضلًا عما أحدثه من آثار هائلة فى المعرفة والسلوك على حد سواء.