الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

الأنا والآخر في الحرب والسلم

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
فذلكة
لقد نشأت مبكرا ومنذ القرن التاسع عشر إﺸﻜﺎﻟﻴﺔ معقدة تتعلق بتمثيل الآخر ذهنيا ثم ثقافيا، أى التصور الذى صاغته الظروف السياسية والتاريخية، والتى جاءت على إيقاع الحركة الاستعمارية، ثم مختلف الصور النمطية التى تلتقطها الثقافة بطرق عديدة غير المحسوس منها يفوق بكثير ما هو محسوس، والمسألة تتلخص فى ﺜﻨﺎﺌية «ﺍﻟﺸﺭﻕ ﻭﺍﻟﻐﺭﺏ» أو «ﺍﻷﻨﺎ وﺍﻵﺨر»، وهذا ﺍلآﺨﺭ قد رسم صورة للشرق منطلقا من تصوراته هو، من رؤيته للحياة، صورة مليئة بالكليشيهات، يكتنفها الغموض أكثر من أى شىء آخر، وجديرة بالملاحظة، هذه القابلية الكبيرة لتغيير المواقع فى لعبة تحديد الأنا والآخر، فالأنا هى «آخر» هذا الآخر، الذى هو «أنا» مقابلة لـ«أناى» التى أعرفها، لكى تنسحب ثنائية الذات الممارسة لفعل التمثيل والموضوع الواقع تحت أداة التمثيل الذى هو «الآخر» من جهة إلى العمل فى الاتجاه المعاكس... فى لعبة لتبادل الأدوار تصبح تعمل أحيانا داخليا، بين الأنا والأنا أيضا، لعبة هناك من يعدها جوهرا للحياة فى تعددها وازدواجيتها الجوهرية.
تنويعات
تعمل الصور النمطية عملها فى هذه التمثيلات بشكل لا يسعنا فى هذا المقام أن نتوسع فيه كثيرا لكى نجد، ﻓﺎﻷﻨﺎ ﺘذوب فى مفاهيم وتصورات تحيل على ﺒﻼﺩ ﺍﻟﺸـﺭﻕ/ ﺍﻹﺴـﻼﻡ/ العالم الثالث/ ﺍﻟﻌﺭﻭبة/ التخلف/ البرابرة/... وكلها مفاهيم يصعب رسم الحدود الواضحة بينها. وهو الأمر الذى يجعل التعامل معها صعبا على المستوى المنهجى؛ لأنه من المستحيل الإمساك به بشكل واضح بسبب عمل التحريف والتشويه والاقتباس والإسقاط الذى تسلطه هذه الصور على الموضوع الأصلى. صعوبة منهجية تضاعفها فكرة أن الصور النمطية التى تتشكل وتتحرك فى المقابل يتحكم فيها منطق رد الفعل، فهى تمثيلات غير بريئة على العموم، ولهذا كان إدورد سعيد ثم هومى. ك. بابا، يستعملان اصطلاحات التحليل النفسى لعلاج هذا الصنف من الموضوعات.
إن الرؤية القطبية كثيرا ما تغرى الباحثين والفلاسفة لكى يتخذوها وسيلة لمعاينة موضوعاتهم، وكثيرا ما علمت- شخصيا- على النصوص المترجمة والنصوص السردية التى تمنح هذه الفرصة لتشكيل رؤية تقاطبية تمكننا من فضح المواجهة بين الذات والآخر، والتى تحتاج بحوثا متجددة باستمرار بسبب تجدد العينات النصية – سردا ورحلة وفلسفة وجدلا سياسيا-.
وربما يكون مصطلح «ﺍﻟﺸﺭق» نتاجا أيديولوجيا وسياسيا قبل أن يدل جغرافيا أو ﺘﺎﺭﻴخيا على جهة أو على سياق حياة ومصير مجتمعات. إن مصطلح «الشرق» ﻴﻌﻭﺩ ﺒﻨﺎ ﺇﻟﻰ الأصول ﺍﻷﻭﻟﻰ للدلالة على اﻟﺠﺯﻴﺭﺓ ﺍﻟﻌﺭﺒﻴﺔ ﻭبلاد فاﺭﺱ والهند والسند، لكى يتحول حاليا إلى الدلالة الجيوسياسية على بؤر التوتر، وعلى مهاد الحروب والثورات والفتن التى ترتبط أساسا بسوﺭﻴﺎ ﻭالعراق وﻤﺼﺭ. الشىء الذى لا يمنعه من شمول ﺍﻟﺼﻴﻥ ﻭﺍﻟﻴﺎﺒﺎﻥ ﻭﺘﺭﻜﻴﺎ، حسب المرحلة والمزاج والظرف التاريخى وخاصة السياسى.
والحاصل – كما يورد إدورد سعيد- هو أن «الشرق فكرة لها تاريخ وتقاليد فكرية، كما أن لها تخيلا وقاموسا أكسبها واقعية وحضورا فى الغرب ولأجل الغرب»... أى أن الشرق فى العرف الاستشراقى هو «سلسلة من التمثيلات تؤطرها مجموعة من أشكال السلطة تم نقلها إلى الغرب ودعمها بالمعرفة الغربية وتم إدراجها فى الوعى الغربى» (إدورد سعيد).
والجوهر أن الهدف الأخير هو الاحتواء، الاستشراق هو عقيدة سياسية كان هدفها إذابة الفروق بين الشرق والغرب لأجل سهولة احتواء الشرق فى الجسد الغربى عن طريق القوة، من منطلق أن الشرق على أيام ينوعه الحركة الاستشراقية كان ضعيفا بالنسبة للغرب (حسب التعبير الشهير لإدورد سعيد)، وعاجزا عن تمثيل نفسه، بل محتاج لمن يمثله – حسب التعبير الشهير لكارل ماركس، الذى يورده إدورد سعيد فى فاتحة كتابه كمفتاح لفهم الكتاب بصفة عامة-.
إن المفهوم المحرف للآخر فى ثقافتنا العربية الشرقية بهذا المعنى، مفهوم تمت صناعته فى الغرب، فهو مفهوم مبنى على الرغبة المضادة التى هى شكل من أشكال الرغبة؛ منظورا إليها بمنظار ردة الفعل التمثيلية التى هى فعل محكوم بنظام عمل الفعل الأول، و«الآخر» فى عرف النفسانيين؛ وخصوصا فى عرف «جاك لاكان» الذى يعد واحدا من أهم من درسوا هذا الموضوع، هو مفهوم مرتبطة صناعته بمفهوم الرغبة، أو مفهوم المسافة الضرورية بين البناء اللاواعى للأنا والبناء التعويضى للأخر؛ ذلك المكان الرمزى، الذى هو فراغات يتم ملؤها بشكل تخيلى يملأ الفراغات التى تعاينها الذات أثناء تجربة بناء نفسها؛ بناء تعويضى محركه الرئيس هو الرغبة (كما يقول إدورد سعيد).
على المستوى الواعى، يمكننا أن نعاين النتائج الملموسة من خلال الفعل الملحوظ ﻟﺩﻯ ﺍﻟﻐﺭﺏ الذى صار يركز مثلا على المرادف «إسلام» الذى لا يدل على صفات وﺨﺼﺎﺌﺹ ثقافية ﺃﻭعرقية ﺃﻭ ﺍﻗﺘﺼﺎﺩﻴﺔ، بقدر الدلالة على منطقة رمزية لا واعية، تتخذ أشكالا عديدة محيلة على مكان واحد هو الموقع المستهدف من السياسات الغرﺒﻴﺔ الرﺃﺴﻤﺎﻟﻴﺔ التى ترسم خرائط توسعية تحتاج إلى تمثيلات ثقافية ترتكز عليها، تعمل بنظام الاحتواء والاستبعاد، أو التبنى والطرح فتستقطب ﺩﻭلاً ﻏﻴﺭ ﻋﺭﺒﻴﺔ ﻭﺘﺴﺘﺒﻌﺩ الدول العرﺒﻴﺔ بانتظام. 
خلاصة القول
إن دلالة لفظة «الذات» على تصور اﻟﺸﺭﻕ ترتكز أيضا على تاريخ قديم يعود إلى زمن الفتوحات الإسلامية الكبرى بعد نشأة دولة الرسول محمد «ص»، وربما تعود إلى فترات سابقة كفترة «اﻹﻤﺒﺭﺍﻁﻭﺭﻴﺔ ﺍﻟﺭﻭﻤﺎﻨﻴﺔ» التى بدأت برسم دوائر للتابعين «داخل أسوار الامبراطورية» واللآخرين ممن هم «خارج الإمبراطورية»... مع الإصرار على ربط ﺩﻻﻟﺘﻪ بحاضر ﺍﻟﺴﻴﺎﻕ، ﻭﻴﻤﻜﻥ ﺃﻥ ﻴﺘﺤﺩﺩ ﺒﺎﻋﺘﺒﺎﺭﻩ ﺍﻟﺒﻌﺩ ﺍﻟﺴﻴﺎﺴﻲ ﺃﻭ العقيدى الثقافى أو ﺍﻟﺠﻐﺭﺍﻓى ﻭحتى ﺍﻻﻗﺘﺼﺎﺩى. 
المعطى الاستشراقى يلعب دورًا قويًا فى هذا المنظار، إذ أنه حرص كثيرا على تشكيل هذه الصور النمطية المتخيلة التى هى نتاج الاستيهام، أكثر من كونها نتاج نظام الدراسة والاستقصاء والدراسة الجادة والرغبة فى المعرفة، باستعمال أنظمة الحق والتحرى لأجل بلوغ نقطة الحق الساطع.