الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ثقافة

"الطوق والأسورة".. لوحة سينمائية عن البؤس والخوف والقلق من الموت

الفيلم

فيلم الطوق والاسورة
فيلم الطوق والاسورة
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
قدم المخرج خيرى بشارة فيلمه الرائع «الطوق والإسورة»، الذي نسج من خلاله حالة إنسانية خاصة، تعبر عن تملك الخوف من الإنسان، الخوف الذى يدفع به إلى ترقب الحياة، والبعد عن المغامرة، وتجنب كل ما هو غير معروف، فالناس تخشى الموت، لأنه فى النهاية يأتى بسطوته فيقضى على كل ما صنعه الإنسان طوال حياته، والأم التى تخاف عيون الناس التي تنهش جسد ابنتها التى كبرت وأصبحت محط نظرهم، وتخاف أيضا غياب الابن وقسوة الغربة عليه، وأهل القرية الذين رأوا فى الطاحونة التى جلبها أحد البقالين مصدرا لرعبهم فهى لن تعمل إلا بدماء الأطفال، هذه الأسطورة التى نسجها خيالهم صنعت عائقا كبيرا وقف أمام دخول أفكار التمدن إليهم، ليصنعوا حالة من العزلة.
الفيلم من بطولة عزت العلايلى وفردوس عبدالحميد وشريهان وأحمد عبدالعزيز وأحمد بدير وعبدالله محمود ومحمد منير، وكتب السيناريو المخرج خيرى بشارة، بينما كتب الحوار الشاعر عبدالرحمن الأبنودي، والفيلم مأخوذ عن نصوص قصصية أصدرها الكاتب يحيى الطاهر عبدالله فى العام ١٩٧٥، وتم تحويلها إلى فيلم سينمائى عام ١٩٨٦ بعد قرابة الـ١٠ سنوات، وتدور الأحداث فى عام ١٩٣٣ عن أسرة ريفية تسكن إحدى القرى تعانى الفقر والعجز وغياب الابن، بينما تحمل الحفيدة بطريقة غير شرعية مما يجعل ابن عمتها يقدم على قتلها.
غياب الابن فى السودان، يصنع حوله حالة خاصة، فالغائب عندما يرسل رسالة تحمل السلامات والتحيات الكثيرة لوالده ووالدته يجب أن تؤثر فيهما بدرجة غير التى تحملها السلامات العادية، وهو عندما يتمنى الستر لأخته، فتجعلها الكلمة تجفل وتنتبه لهذا الشيء الذى يسمى «ستر» والمراد به «زواج»، إن غياب توالى الرسائل وقلة التواصل وصعوبتها مع الغائبين هناك فى السودان، جعل الأهل يستمعون للأساطير ويصدقون الغرائب فهم يحفرون الترع ويشقون الطرق ويواجهون مع ذلك حيات غاية فى الضخامة تشبه رقبة إنسان، وتستطيع مع بروز لسانها أن تخرج ألسنة لهب حارقة، هذه النيران التى تترجمها الأم على الفور أنها «حُرقة القلب» التى تستمر لغياب الابن، ولكن ماذا سيحدث إذا عاد الابن؟ هل هو المخلص الحقيقى لفقرهم وعجزهم؟
يمثل عجز الأب دافعا قويا لدى الأسرة للتطلع إلى الابن وانتظار رسالته والتشوق لأخباره، لكنه يتمادى فى بعاده حتى يمر عليهم الزمن ويحدث أثرا كبيرا فى حياتهم ووجوههم، إن عقل الأب يستمر حاضرا كما ذاكرته، فتظل الذاكرة محتفظة ببقاء ابنه بينهم، ومحتفظة بيوم زفافه الأول، حيث داعب زوجته بالحلوى وهى تجاوبت معه فأحضرت الدخان، أشعلت له السيجارة، لكن فطنته العقلية تظهر فجأة وتختفى سريعا، فهو مثلا الذى يعترض على بركات الشيخ الذى فرش ثوبه ع الماء وعبر للبر الثانى دون أن يبتل، فيقطع حديث ابنته ضاحكا قائلا: «شيلونى أصل أنا اللى اتبليت من غير ما أعبر لأى بر»، ثم عندما تحدثه عن أن الفتاة كبرت فحدثها عن سهولة تزويجها من شخص بعينه. 
تفضح أحداث الفيلم ضحالة المجتمعات القروية التى تتسم بالجهل والفقر، فهم يعيشون من نسيج الأسطورة الذى يصنعونه، ولا يرغبون فى تغيير قيمهم الموروثة والتى تنافى المدنية والعلم والتحضر، فهم ما زالوا يلجأون للشيخ كى يستجلبوا البركة ويحلون عقدهم، وكان الفيلم مزيجا رائعا من القصص الشعبية والأساطير الفولكلورية التى تجلت فى المواويل والحكاوي، وأيضا المعبد والحضارة الفرعونية، والشيخ والثقافة الإسلامية، فتظهر تلك الألوان التى أثرت عبر قرون طويلة ماضية فى تحولات المجتمع المصرى ولا سيما مجتمع القرية الذى فرض حصارا وانعزالا على نفسه.