الإثنين 29 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

المعايير المختلفة للحقيقة «3»

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
.. ونواصل حديثنا عن المعايير المختلفة للحقيقة، ونتناول فى هذا المقال المعيار الصوفى أو الحدسي، وهذا المعيار هو نور الباطن أو اعتقاد عميق راسخ يحمل من اليقين قدرًا أعظم من كل المعايير الأخرى للحقيقة، ولا حاجة تدعونا إلى القول إن هذا المعيار، بالنسبة إلى الفلسفة، معيار شخصى وذاتى إلى حد لا يسمح بكثير من التحليل؛ فالفيلسوف يجد لزامًا عليه أن يعترف بحقيقة هذه التجارب وتأثيرها فى الفرد، وعالمِ النفس لا يستطيع تقديم الكثير حول هذه المسألة؛ إلا أن يشير إلى مسألتين جديرتين بالاهتمام عند الحكم على صحة هذه التجارب: أول هاتين المسألتين سلبية، فالشعور باليقين الباطن هو فى حد ذاته شعور لا يعول عليه مطلقًا، كما يدل على ذلك كون المجانين أكثر يقينًا بحقيقة معتقداتهم من أى مجموعة أخرى من البشر. أما من الناحية الإيجابية، فإن هذا الإحساس الداخلى أو الشعور الباطن موجود فى نهاية الأمر، فى كل تجربة للحقيقة، أيًّا كان المعيار الذى نستخدمه. 
ويمكن القول: إن الشعور باليقين الباطن هو فى الوقت نفسه أهم معيار ذاتى للحقيقة وهو أقل المعايير من حيث إمكان الاعتماد عليه، ومن المعترف به أنه لا يمكن أن يكون لدينا تجربة بحقيقة معينة ما لم يكن هذا الشعور الحدسى باليقين موجودًا، ولكن هذا الشعور فى ذاته غير موثوق منه، رغم أن وجوده ضرورى ومن الواجب أن يكون مصحوبًا بعدة معايير أخرى؛ إنه وسيلة التصديق على المعايير الأخرى الأكثر موضوعية، وهو أداة لتحقيق هذه المعايير، ولكنه معيارٌ صحيحٌ عندما يكون قائمًا بذاته.
ويمكن القول- ونحن بصدد الحديث عن المعيار الصوفى أو الحدسى للحقيقة - إن هناك حقيقة سيكولوجية لا يمكن إنكارها إلا عن جهل - كما يقول ولتر ستيس الفيلسوف الإنجليزى الشهير فى كتابه: «التصوف والفلسفة»- وهى أن الإنسان تعرض له فى حياته خبرات غير عادية يمكن أن نصفها بأنها «خبرات دينية»؛ وهو يسميها فى أعلى صورها باسم «الخبرة الصوفية» وهى خبرات نلتقى بها فى آداب الأمم جميعًا حتى أكثرها تحضرًا، هذه الخبرات تجعلنا نتساءل باستمرار عما إذا كان هناك - فى هذا الكون - وجود روحى أعظم من الإنسان، هو الذى تتطلع إليه الديانات المختلفة للجنس البشرى، وإن صح وكان هناك مثل هذا الوجود الروحي، فما علاقته بالإنسان؟ وما علاقته بالكون بصفة عامة.
إن التفسيرات المختلفة لنشأة الدين تفترض سلفًا وجود هذه الخبرة الدينية أو الصوفية إن صح التعبير (أعنى ذلك الموقف الذى يجد فيه الإنسان نفسه مدفوعًا إلى التساؤل عما إذا كان هناك وجود روحى متعالٍ) إنها - الخبرة الدينية أو الصوفية - إحساس متأصل فى أعماق الإنسان، بحيث تصبح محاولة انتزاعه، محاولة يائسة بقدر ما هى عقيمة، هذا الإحساس «يكمن فى أعمق أعماق كل قلب بشري، بل هو يدخل فى صميم ماهية الإنسان»، وكما لاحظ «رودلف «أوتو» - اللاهوتى الألمانى والباحث فى تاريخ الأديان - إن هذا الإحساس هو واقعة نفسية، لا تنشأ عن أى إرادة أو تصميم مسبق، بل العكس هو الصحيح تمامًا؛ ذلك لأن الإنسان يجد نفسه تحت سلطان هذا الإحساس دون مقدرة على توجيهه أو التحكم فيه، والطابع الانفعالى غير العقلانى الذى تتسم به هذه الخبرة بالمقدس - كما يقول «أوتو» - لا يمكن التعبير عنه بلغة الواقع المعيش ومفردات التجارب اليومية، فهذا أمر فى غاية الصعوبة.
الخبرة الدينية، إذن، ليست ظاهرة يمكن مراقبتها ووصفها من الخارج، وإنما هى أمر ذاتى يختبره الفرد بنفسه؛ ولا يستطيع أن يتعرف عليه إلا بالتنقيب فى ذاكرته وسيرته الذاتية، والاستماع إلى شهادة الآخرين الذين عبروا عن خبراتهم. وهو لا يختص بفرد دون آخر، ولا بفئة دون أخرى؛ بل يتعرض له الجميع ولكن بدرجات متفاوتة من الشدة والوضوح، ويتعاملون معه بدرجات متفاوتة أيضًا من القبول والاعتراف.
وتتخذ الخبرة الدينية سمتها الجماعية عندما يأخذ الأفراد بنقل خبراتهم لبعضهم البعض، فى محاولة لتحقيق المشاركة والتعبير عن الخبرات الخاصة فى خبرة عامة، وذلك باستخدام تعبيرات من واقع اللغة، وخلق رموز تعبر عن حالة انفعالية مشتركة تقود إلى تكوين «المعتقد»، وهو حجر الأساس الذى يقوم عليه «الدين الجماعي»؛ حيث تتعاون الجماعة على فهم خبراتهم وتفسيرها وفقًا له. وبما أن الخبرة الدينية ليست - فى أساسها - خبرة عقلية بل انفعالية، فإنها لا تتطلب بطبيعتها البرهان ولا تتطلع إليه؛ وإنما تتطلب إطارًا موضوعيًا خارجيًا يضفى عليها صفة مشروعة ومعقولة.