الإثنين 29 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

ابن المقفع من هزل الأقاصيص إلى خصال الحكام

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

لم يترك لنا ابن المقفع مصنفًا قصصيًا مفعم بالحكايات الرمزية المستندة إلى الإشارة والإحالة، ولم يضع – فى كتابه كليلة ودمنة – ذلك الخطاب السردى الشاغل بالحكايات المتعاقبة المتداخلة فحسب، بل ترك لنا أيضًا العديد من التصورات والرؤى خلال الحكى لحماية إيماءته النقدية التوجيهية الإصلاحية، وسوف نتناول هذه الرؤى والنظريات تبعًا لأهميتها، ويبدو أولها فى

مركزية البطل

فقد ذهب ابن المقفع إلى أن صلاح الحاكم يؤدى حتمًا إلى صلاح المجتمع وليس العكس، لذا نجده يؤكد على ضرورة تمتع الحاكم بقدر كاف من العقلانية والأريحية والوعى والأناة والحنكة والحكمة والنظرة الناقدة لتقييم الأمور والحكم عليها، وانتقاء النافع من الأفكار وانتخاب الأصلح من الرجال ليخصهم بمعيته ويستعين ببعضهم فى تسييس أمور دولته، وذلك كله بمنأى عن الأهواء والأنانية والتسلط والاستبداد، وقد حث فى غير موضع من حكاياته على أهمية صلاح حاشية الملك وإخلاصهم له فى النصح عند المشورة ونزاهتهم وعفتهم وورعهم وغير ذلك من الفضائل العملية التى تحول بينهم وبين الفساد بكل ألوانه وأشكاله، فها هو ابن المقفع يجعل من «دبشليم ملك الهند وبطل أحدى أقاصيصه» نقطة الانطلاق، فهو علة ظهور الكتاب وما فيه من قصص على ذلك النحو القصصى الجامع بين الهزل والجد، الأمر الذى يبرر حرصه على تضمينه العديد من قصصه عدة نصائح للحاكم بوجه عام لتحميه من الزلل والانقياد للأهواء أو الإصغاء لأهل الشر من المخادعين والمحتالين، وهو أيضًا – أى الملك أو الرئيس بطل كل أقاصيصه ومسير كل الأحداث بداية من قصة أسد الغابة إلى نهاية حكاياته- فيقول فى قصة « الأسد والثور» عن خطر اللئام فى معية السلطان: «إن اللئيم لا يزال نافعًا ناصحًا حتى يرفع إلى المنزلة التى ليس لها بأهل، فاذا بلغها التمس ما فوقها، ولاسيما أهل الخيانة والفجور: فإن اللئيم الفاجر لا يخدم السلطان ولا ينصح له إلا من خوف، فإذا استغنى وذهبت الهيبة عاد إلى جوهره، كذيل الكلب الذى يربط ليستقيم فلا يزال مستويًا ما دام مربوطًا، فإذا حُل انحنى واعوج كما كان، واعلم أيها الملك أنه من لم يقبل من النصيحة ما يثقل عليه مما ينصحون له به، لم يحمد رأيه، كالمريض الذى يدع ما يبعث له الطبيب، ويعمد إلى ما يشتهيه، وحق على أعوان السلطان أن يبالغوا فى حثه على ما يزيد سلطانه قوة ويزينه، والكف عما يضره ويشينه، وخير الأعوان أقلهم مداهنة فى النصيحة، وخير الأعمال أحلاها عاقبة، وخير الثناء ما كان على أفواه الأخيار، وأشرف الملوك من لم يخالطة الحاقدون والناقمون، وخير الأخلاق أعونها على الورع». 

ثم يضيف ابن المقفع على ما تقدم نصحًا شارحًا لمأربه وموجزًا لفكرته وذلك بقوله: «إن السلطان إذا كان صالحًا، ووزراؤه وزراء سوء، منعوا خيره، فلا يقدر أحد أن يدنو منه، ومثله فى ذلك مثل الماء الطيب العذب الذى تسكنه التماسيح: لا يقدر أحد أن يتناوله من الظمئ، وإن كان إلى الماء محتاجًا».

ويرى ابن المقفع أن أسوأ الحكام هم الذين تمكن منهم الحمق وقادهم إلى الصلف والاستبداد وعدم الإصغاء إلى النصح والمشورة، كما أن الحاكم الجائر هو الذى صورت له نفسه بأنه أعلى مقامًا وشأنًا من رعيته، ومن ثم لا يحق لهم مراجعته أو مطالبته بشىء لم يمنحه لهم وقد وعدهم به، أو سؤاله عن أمور لم يفصح عنها، رغم ذلك فيرى ابن المقفع أن السبيل لعلاج هذه السمات والصفات الذميمة هو التقويم عن طريق نصح الحكماء والمصلحين من قادة الرأى فى الرعية، فمن الواجب عليهم فى كل عصر أن يبصروا الحاكم بأخطائه وزلاته وسقطاته ومواطن الخطأ والخطر فى قراراته ومواضع الفساد والخلل فى حاشيته ومؤسساته ووزرائه وعماله.

ويقول: «الواجب على الملوك أن يتعظوا بمواعظ العلماء، والواجب على الحكماء تقويم الملك بألسنتهم وبالأسلوب اللائق بمخاطبتهم وتأديبه بحكمتهم وإظهار الحجة البينة اللازمة لإقناعه ليرتدع عما فيه من اعوجاج والخروج عن العدل» ويقول فى موضع آخر فى قصة (البوم والغربان) « من لم يستشر النصحاء والأولياء، وعمل برأيه من غير تكرار النظر والروية، لم يغتبط بمواقع رأيه ومآله وعواقبه». 

ويفاضل ابن المقفع بين الملوك والحكماء ساعيًا إلى الإعلاء من قدر الفلاسفة والعلماء وتحميلهم فى الوقت نفسه مسئولية حماية الأمة من جنوح الحكام واستبداد الراعى من جهة وغشاوة جهل الرعية وسكوتها على الجور إذا حل من جهة أخرى، فأصحاب الرأى عنده أعلى مقامًا من الولاة والوزراء والمنوطين بحفظ النظام والأمر والنهي، كما أن صاحب الجوائب على ألف سؤال أغنى مما اكتنز المال، ويقول: «إن كان للملوك فضل فى ممالكها فإن للحكماء فضلًا فى حكمتها أعظم: لأن الحكماء أغنياء عن الملوك بالعلم وليس الملوك بأغنياء عن الحكماء بالمال، وقد وجدت العلم والحياء ألفين متآلفين لا يفترقان: متى فقد أحدهما لم يوجد الآخر... ومن لم يستح من الحكماء ويكرمهم، ويعرف فضلهم على غيرهم، ويمنعهم عن المواقف المذلة، وينزههم عن المواطن الرزلة كان ممن حرم عقله، وخسر دنياه، وظلم العلماء حقوقهم، وعد من الجهال». 

وينتقل ابن المقفع إلى الخصال التى ينبغى للحاكم أن يتحلى بها، وهى فى مضمونها أكثر نفعًا – فى عصرنا – من تلك التى وضعها المتكلمون والفقهاء وكتاب الآداب السلطانية كشروط لصحة الإمامة، وقد أورد ذلك فى سياق حكايته عن كسرى انو شروان ملك فارس فبين أن رجاحة العقل وسعة الدراية والعلم، وسداد الرأى والسعى لتحقيق المصلحة والمنفعة العامة.

ومن أقواله فى ذلك: «إن العاقل إذا أتاه الأمر الفظيع العظيم الذى يخاف من عدم تحمله ويؤدى إلى الشدة المهلكة على نفسه وقومه، لم يخرج من شدة الصبر عليه، لما يرجو من أن يعقبه حسن العاقبة، وكثير الخير، فلم يجد لذلك ألمًا» ومن خصال الحاكم البطل أيضًا تقدير العلماء والحرص على صحبة الحكماء، بالإضافة إلى حماية الحقوق والانتصار إلى العدل، والشدة فى مكافحة الفساد، والقوة فى حفظ الأمن، والرغبة الصادقة فى تفشى روح السلم والمودة والرخاء بين الرعية، وأكد – ابن المقفع – أن أخس وأشر الحكام هو الكذوب المخادع، وأحكمهم هو الكتوم الذى لا يفشى أسراره لأهل النميمة واللجاجة وأسافل الناس، كما ينبغى للحاكم أن يحصن أموره من أهل الإفك والفجور، ولا يطلع أحدًا على مكنون سره.

وقد تأثر معظم الفلاسفة الذين اضطلعوا بتوضيح مقاصد السياسة الشرعية وصفات الحاكم الأساسية والآداب السلطانية بهذه الآراء، نذكر منهم: الماوردى وابن حزم والغزالى وابن الأزرق وغيرهم

وللحديث بقية عن آراء ابن المقفع الأخلاقية....