رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

كلمات من دفتر الرحلة

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
تفتحت عيناى على الحياة؛ ابنًا لرجل صعيدى يعمل بأرضه، يرويها من عرقه وكدّه وإخلاصه فتجود عليه بخيرها، وبطبيعة الحال اهتم والدى بتنشئتنا أنا وإخوتى على أسس وقواعد قلما تتنازل عنها عائلة من عائلات الصعيد، حيث التعامل مع الطفل «الذكر» منذ الصغر على أنه رجل فى الثلاثين من عمره.
منذ طفولتى وجدتنى مُحاطًا بالتوجيهات والنصائح فيما يليق وما لا يليق بالأسوياء، وماذا عليّ أن أفعل حينما أكون فى مجلس الرجال، وما لا يجب عليّ فعله حينما أجلس مع من هم أكبر منّى سنًا ولا سيما إن كانت الجلسة بحضور جدى رحمة الله عليه أو أحد أعمامى أو جميعهم.
تشرّبت بعادات وتقاليد الصعيد، واستطاع والدى - حفظه الله - أن يصقل هذا العود الأخضر ويقومه منذ الطفولة، وذلك من خلال غرسه حب العمل بداخلي، ودفعى لمواجهة الصعوبات على مختلف أنواعها، فهو يرى أن الرجل الحق عليه مواجهة الحياة منذ أن تتفتح عيناه عليها ويبدأ فى إدراكها، وألا ينتظر أن تهاجمه بهمومها، بل يجب عليه أن يكون الفاعل، وأن يُلقى بنفسه فى غمارها، ليتعلم من تجاربه الشخصية، تمهيدًا للاعتماد على النفس. 
لا أدرى كم كان عمرى تحديدًا حينما كانت توقظنى والدتى - حفظها الله - فجرًا، لأسحب الجَمل من خلفى - أو أجذب رأسه لأسفل من الرسن لأتعلق برقبته وأزحف بجسدى النحيل لأعلى حتى أستقر على ظهره - متجهًا إلى الأرض حيث ينتظرنى جدى وأعمامى لجمع ثمرات الشمام ذلك المحصول الذى اشتهرنا بزراعته فى أرضنا فترة التسعينيات من القرن الماضى.
كانت هذه المرحلة العمرية أول عهدى بالجهد العضلى الذى اعتدته فيما بعد، ومرت السنوات وواصلت الجهد والعمل بمختلف أشكاله عن طيب خاطر، كأى من أبناء بلدتى ولا سيما أبناء المجتمع الصعيدى الكادح الذى لا يعرف التواكل أو الاعتماد على الآخرين، ولا يشعر بطعم اللقمة إلا وهى مغموسة بالعرق والكفاح، وشاء القدر أن أنتقل إلى الدراسة بكلية الإعلام بجامعة القاهرة، وفى هذا التوقيت كان قد مضى على الأقل سبعة أعوام لم أطلب خلالها من والدى جنيهًا واحدًا، ليس لأزمة بينى وبينه، وإنما لأننى لست بحاجة لهذه الأموال، فأنا أعمل طوال أيام الصيف وأدخر ما يكفينى ويكفى نفقات دراستي، فكان من المنطقى ألا أطلب من والدى الذى لم يبخل علّى يومًا بمال، وكان الاعتماد على النفس ورفض المساعدة نُصب عينى طوال الوقت.
خلال فترة دراستى الجامعية عملت بالعديد من الحرف حتى أحصل على نفقاتى وكذا لأدبر أمر إقامتى فى القاهرة وملبسى ومأكلي.. الخ، فتارة تجدنى مساعدًا لبنّاء وأخرى مع فنى رخُام، وبعض الوقت بائع بسوبر ماركت أو مع مبيض محارة.. إلى آخر القائمة الطويلة من الحرف المختلفة؛ وكنت ألاقى فى هذه الأعمال تقديرًا واحترامًا كبيرين من أصحاب العمل ناهيك عن نظرات الفخر والاعتزاز حينما يعرفون أنّى أدرس لجوار العمل، وأجتهد لتحصيل نفقاتي؛ ورغم هذا لم يكن الأمر مريحًا لوالدى فكثيرًا ما دار النقاش بينى وبينه فى أمر التفرغ للدراسة، إلا أنّى كما يقول اخترت طريقى فى مواجهة الحياة.
كنت - وما زلت – أفخر بما مر بى من تجارب فى رحلة قررت خوض غمارها بمفردى دون الحاجة إلى مساعدة أو معونة من أحد؛ لا أجد فيما فعلته أمرًا مشينًا ولا ينتقص منّى فى شيء، ولعل سيرة الناجحين وأصحاب البصمات الحقيقية فى مجالاتهم المختلفة كانت نُصب عينى خير مثل فى الكفاح لنيل الأمجاد، والوصول إلى ما تصبو إليه النفس من رفعة، وإن كنت مقتنعًا تمامًا أننى فى بداية الطريق، ولم أحقق شيئًا ذا بال حتى الآن، إضافة إلى إيمانى بأن الله لا يضيع عمل عامل، وأن الأيام لم تجد بأفضل ما لديها، وأن دفتر الرحلة لم يمتلئ بعد، وبه العديد من الصفحات التى سأدونها على مهل بحروف يفخر بها الأهل والأصدقاء والمحبون، مثلما أفخر بما خطته يداى خلال السنوات الخالية، ذلك أن الكفاح فى الحياة والاجتهاد فى العمل لا يمثلان نقيصة أو لعنة تُطارد أصحابها.