السبت 20 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

خطاب ابن المقفع بين الأدب والفلسفة

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
تباينت رؤى النقاد القدماء والمحدثين حول كتاب «كليلة ودمنة» لعبدالله بن المقفع (نحو ٧٢٤ - ٧٦٢ م) فشكك بعضهم فى نسبة هذا الكتاب لمؤلفه، وراح نفر منهم يجمع بين الأقاصيص من التراث الهندى والفارسى مثل التى أوردها المؤلف فى كتابه لإثبات تأثره بها، وانتهوا إلى أن دور ابن المقفع ينحصر فى جمعها وإجراء بعض التعديلات فى صياغتها وسردها لتتواءم مع الثقافة العربية الإسلامية، وراق لفريق ثالث ولاسيما من المستشرقين التأكيد على أن الكتاب - فى مجمله - يعبر عن آراء ابن المقفع السياسية والأخلاقية التى كان يخشى التصريح بها فى أيام أبى جعفر المنصور (ت ٧٧٥م) الذى اتسم بالشدة والعنف تجاه الكتاب والمبدعين والحكماء والفقهاء أيضًا، وذلك لحماية دولته الفتية، وقد ذكر أحمد أمين - الذى انتصر لهذا الرأى - ذلك بالتفصيل فى كتابه (ضحى الإسلام) مبينًا أثر هذا العمل فى الأدبين العربى والفارسي، والذى يعنينا فى هذا المقال هو الكشف عن تلك الآراء النقدية ذات المسحة الفلسفية التى ضمنها ابن المقفع فى كتابه «كليلة ودمنة»، الذى يُعد من بواكير الكتابات الأدبية التى ارتدت الثوب القصصى الملغز اتقاء لغضبة السلطات القائمة، سواء كانت سلطة الحاكم أو العقل الجمعى التابع (الجمهور) وسوف نشير - فيما بعد - إجمالًا لإبداعات ابن المقفع وصنعته فى بناء الشكل القصصى ليتناسب مع الواقع المعيش آنذاك واجتناب السلطات المهيمنة على الرأى العام.
وجدير بالذكر فى هذا المقام أننا لا نجد أشهر من قصة «حى بن يقظان» لابن طفيل وكتابات أبى حيان التوحيدى ولاسيما كتابه «الامتاع والمؤانسة» وما ورد فى رسائل «إخوان الصفا» سيرًا على هذا الدرب، فجميع هذه الأعمال اتخذت من الحكى القصصى وعاءً لحمل آراء أصحابها الأخلاقية والسياسية والتربوية والاجتماعية والعقدية والفلسفية، أما فى العصر الحديث فنجد أحمد فارس الشدياق فى كتابه «الساق على الساق»، ورفاعة الطهطاوى فى ترجمته لكتاب فينليون «مواقع الإفلاك فى وقائع تليماك» ومسامرات «علم الدين» لعلى مبارك، وكتاب «الفضيلة» لبرنار دين سان بير الذى عربه مصطفى لطفى المنفلوطي، وكتاب «حديث عيسى بن هشام» لمحمد المويلحي، وحكايات يعقوب صنوع، وأزجال عبدالله النديم الساخرة، و«مذكرات الشيخ حسن الفزارى» للشيخ مصطفى عبدالرازق، ناهيك عن الكتابات القصصية لطه حسين ومحمد حسين هيكل ويحيى حقى ونجيب محفوظ، فجميع هذه الأعمال جمعت بين الأدب والفلسفة واللهو والحكمة والتبكيت أيضا، وكان مقصدها هو النقد والتقويم والإصلاح.
ويأمل كاتب هذه السطور أن يضطلع أحد الباحثين الشبان بوضع دراسة مقارنة بين هذه الخطابات مجتمعة للكشف عن نسقيتها وأثرها فى الثقافات التى نشأت فيها، بالإضافة إلى المسحة الفلسفية التى شكلت بنيتها وصبغت بناءها.
والجدير بالذكر أن ابن المقفع قد أفصح فى غير موضع من الكتاب (أى كليلة ودمنة) عن مقاصده من سرده لهذه الأقاصيص التى حواها الكتاب وجاء معظمها على لسان الحيوانات والطيور، فى ثوب أدبى رفيع وفى لغة أقرب إلى الرمزية والألغاز منها إلى السرد القصصى المباشر.
فها هو ينبه القارئ إلى ضرورة إمعان النظر للتميز بين القشر واللباب، أى بين القالب القصصى وأسلوب الحكى وتلك الحكم العاقلة والرؤى الموجهة الكامنة فى صلب القصص التى تنشد الإصلاح للراعى والرعية، وذلك بقوله: «ينبغى للناظر فى كتابنا هذا ألا تكون غايته التصفح لتزويقه، بل يدقق ويتأمل ما يتضمن من الأمثال، حتى ينتهى منه، ويقف عند كل مثل وكلمة، ويعمل فيها رويته... ويديم النظر فيه من غير ضجر (أى فى النص والتراكيب والأحداث)، ويلتمس جواهر معانيه، ولا يظن أنه نتيجة الأخبار عن حيلة بهيمتين أو محاورة سبع لثور: فينصرف بذلك عن الغرض المقصود... كما ينبغى للناظر فى هذا الكتاب أن يعلم أنه ينقسم إلى أربعة أغراض: أحدها ما قصد فيه إلى وضعه على ألسنة البهائم غير الناطقة ليسارع إلى قراءته أهل الهزل من الشبان (أى للتسلية والترويح عن النفس) فتستمال إليه قلوبهم، والثانى إظهار خيالات الحيوان بصنوف الأطباع والألوان، ليكون آنسًا لقلوب الملوك، ويكون حرصهم عليه أشد للنزهة فى تلك الصور (أى للمتعة والمسامرة)، والثالث أن يكون على هذه الصفة: فيتخذه الملوك والسوقة، فيكثر بذلك انتساخه، ولا يبطل فُيخلق على مرور الأيام (أى يستمر)، ولينتفع بذلك المصور والناسخ أبدًا (أى رواة القصص والحكايات)، والغرض الرابع، وهو الأقصى (أى البعيد الغامض)، وذلك مخصوص بالفيلسوف خاصته». 
وقد عقب مفكرنا أحمد أمين على هذا المقصد الأخير بقوله: «إن ابن المقفع قد سكت عن هذا الغرض الرابع ولم يبينه وهو - من غير شك - وهو (الإحالة والإشارة والرمز) غرض ابن المقفع من ترجمته (لكتاب بيدبا حكيم الهند المزعوم) والظاهر أن هذا الغرض يمكن تلخيصه: فى أنه النصح للخلفاء حتى لا يحيدوا عن طريق الصواب، وتفتيح أعين الرعية حتى يعرفوا الظلم من العدل، وحتى يطالبوا بتحقيق العدل، ولم يوضحه ابن المقفع لأن فى إيضاحه خطرًا عليه من الخليفة أبى جعفر المنصور (مؤسس الدولة العباسية)، ولعل هذه النزعة كانت من الأسباب للإيعاز بقتله». 
وللحديث بقية عن آراء ابن المقفع النقدية.