الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

ساحة الفلسفة المركزية

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
فذلكة
يضع جيل دولوز البحث الفلسفى قبل تعريف الفلسفة؛ هو الذى مارس الفلسفة لثلاثين سنة قبل أن يؤلف كتابه البديع «ما الفلسفة؟»، وبمجرد أن يفكر فى تعريفها بأنها «صناعة مفاهيم» و«نحت لطرائق معينة فى النظر إلى الموضوعات»، هو نفسه الذى كان قد قال من قبل «أنا فيلسوف غبى عمومًا، فالفلاسفة يعملون على مواد محددة فى البرامج، وبطرائق موصوفة سلفًا، وأنا أعمل على تجارب فى حالة خامات بطرائق هى خامات أيضًا»... بمجرد أن يعقل ذلك يكون قد استأهل وصف ميشال فوكو الخطير؛ الذى قال: «ربما يأتى وقت نقول فيه: لقد عشنا فى العصر الدولوزي».
السؤال المربك: ماذا يحمل لنا هذا الشك فى التعريفات؟ وما الذى تستدعيه هذه المراجعة المستمرة للمفاهيم فى صلبها؟ هل هى إعادة نظر فى الفلسفة كحقل للتفكير ولمقاربة الحقيقة، ولطريقتنا فى ترتيب فوضى الوجود؟ وهل يجعلنا الشك الجزئى فى قطاعات معينة من جسم الفلسفة نشك فى الجسم ككل على الطريقة المحببة للثوريين الذين يحلمون بعالم (فلسفي) لا يعتمد على التصحيح والإصلاح والمراجعة، بل يستهدف قلب نظام الأشياء رأسًا على عقب؟
تنويعات
كدولوزى متبنٍّ لطريقة دولوز الفلسفية بعمق، كثيرًا ما يربكنى المشهد الفلسفى المعاصر، سواء فى ذلك ما أراه عندنا فى الضفة الشرقية، وما يصلنا من المنابر الغربية، إرباك يشمل مختلف جوانب مدينة الفلسفة التى يبدو أن فيها أحياء شعبية وأخرى راقية، وإن فيها ساحة مركزية يلتقى فيها الجميع فى مواعيد غير منظمة ولا محسوبا لها.
تبدو الفلسفة مغرمة بالتخلى عن الفكر المعتق لفائدة التفكير الطارئ؛ تفكير يتلبس باللغة فيصاب بما فيها من فتنة جلب الانتباه وسحر الإدلاء المباغت، ولكنها فلسفة تقع فى مطبات اللغة أيضًا؛ من قابلية الاختلاف وعسر توحيد الشفرة الفكرية، والثقة المفرطة فى الخلفيات النفسية والثقافية للباراديغمات التى سرعان ما تدخل بين قوسين فتتخذ لها مكانة سريعة قد لا تكون مكينة، ولكن «المفهوم» يختلف عن المفهوم، وإذا كنا نختلف عموما فى أفكارنا؛ فإننا نوحى بأننا لسنا بحاجة إلى التدقيق فى كوننا «نختلف» عمومًا فى «أفكارنا»...
تبدو الفلسفة منذ قرابة القرنين سائرة فى مسار غريب: الشك فى الميراث والشك فى الشك نفسه. كثيرون يرجعون عما قالوه فى نهايات حياتهم عما قالوه فى بداياتهم. وهذا يدل على حيرة صارت الفلسفة مغرمة بها، حيرة تحولت إلى مبتغى تقصده الجموع المتفلسفة. مسار غريب أيضا لأنه متسارع فى خلق الباراديغمات، والبحث المستمر عن حروب ضد الميتافزيقيات، ليست ميتافيزيقا السماء بل ميتافيزيقا الأرض. تلك التى هى منوطة بالمسلمات الموروثة.
وبصيغة أخرى؛ صيغة مدرسية يمكننا أن نتساءل عن الحقيقة التى حولها دولوز مثلا إلى معطى جذمورى وليس جذريا، معطى يعيش أفقيا كمثل النباتات ذات الجذور السطحية (الجذمور)، لا الأشجار التى أغرم الفلاسفة بها دائما؛ كمثال لما جذوره ضاربة فى الأرض وأعناقها مشرئبة إلى السماء.
السؤال نفسه ينتمى إلى تاريخ ساحة الفلسفة المركزية؛ فالبحث القائم على الحدود بين الفلسفة والاجتماعيات يتراوح دوما بين حقيقة نجرجرها وكأنها هى التى تجرجرنا، حقيقة تعبرنا كحتمية تاريخية تفوق الحاضر، وقيم حقيقة هى وليدة انخراطنا فى فعل التفكير، حقيقة نصنعها باجتهادنا. حقيقة هى نحن.
ففى علم الاجتماع على سبيل المثال، تنادى النزعة الشمولية كما هو معروف بتفسير تستحوذ عليه الأقلّية، تفسير «المحلي» (والسلوك البشرى بنزعته المفارقة خير مثال على ذلك) بدلا من العمومى والشامل أو الشمولي، وبدلا مما هو عالمى (والباراديغمات الثقافية، أو بنيات المؤسسات خير مثال على ما نتحدث عنه). الشمولية بهذا الشكل تدعم الرغبة فى الهيمنة المنهجية فى بسط نفوذ التفسير. ومن هنا تكون الغلبة «للتفسير» على «الفهم» (كما كان يقول فيلهالم ديلطاي)، ويتقدم المجتمعى على الفردى (حسب معجم إيميل دوركهايم)، ويهيمن «النظام» أو «النسق» على الفاعلين أو العناصر أو الأفراد (إذا استعرنا التعابير الأثيرة لدى تالكوت بارسونز).
أحالنا كثير من أسئلة المنهجية المسكونة بفكرة البحث عن الحقيقة إلى إحداثيات مارتن هايديجر؛ الرجل الذى وصل إلى نقطة واضحة فى مسار بحثه الشهير عن حقيقة الوجود، الذى لا مخرج له من ثالوث «أنا، الآن، هنا»؛ وهى تفضى على خيبة الإنسان وذكائه أمام «الكون» ومساحاته الخفية... فالنظرة صوب ساحة المدينة من وسط كوخ فى الغابة (تراه أحد تلك الأكواخ الفلسفية؟) قد تحيل على خيبة الرأي/ الرؤية، إزاء المنظر العام بسعته وفوضاه والغموض الذى يعترى فعل النظر (أليست لمدينة الفلسفة التى نبحث لها عن ساحة المركزية أسوار؟). 
يتحدث فلاسفة عصرنا من جهة أخرى عن «ميثولوجيا اللحظة. عن التأريخ للحاضر. وخلف كل هذا قلق كبير؛ قلق النهايات الذى يحيل دائما على الشعور بضرورة اختلاق بدايات متجددة، وليست هنالك كلمة تتكرر لدى المتفلسفين مثلما تفعل كلمة «أنطولوجيا» (الأثيرة لدى كل من دولوز وهايديجر، مع اختلاف جذرى فى الرؤى والخلفيات)... هذا المصطلح المولع باختلاق بداية لكل شيء ظللنا مطولا نعتقد بأنه «قديم» وأنه «تراث» لكى يكتشف لنا القرن العشرون عن أننا لا نعرفه، وأننا نحتاج إلى تغيير وعينا به... وتنشأ بذلك النزعتان الفلسفيتان المذكورتان أعلاه: المراجعةrévisionnisme ونزعة الانقلاب subversion... وإذا كان الشرح والتفسير قد سيطرا على الأداة الفلسفية منذ أقدم العصور؛ فإن باب السيطرة قد تحول منذ نصف قرن إلى التأويل.
سار تاريخ الفلسفة مسارًا جوهريًا، باحثًا وسط العالم وداخل العقل عما هو جوهري، عن الأساسي، عما يحكم الأعراض ويقاوم سريانها القوى المستمر، أما منذ نصف القرن تقريبًا؛ فإن المتكلمين فى مباحث الفلسفة ونقاشاتهم هى العرضية؛ تجعلنا نضحى بطريقة مغرية بكل يقينياتنا، فيصبح التاريخ صياغة فى حين كثير من الصياغات هى «أقدار» تصنع سعادة أو تعاسة ولا تصنع فصلا فى كتاب أو ترسم نقاشا على منبر كثير الضوء، بسرعة تتهرب الفلسفة من القضايا الشائكة بوضعها فى منتصف المسافة بين نقيضى ثنائية إقصائية لا تفتح باب الإمكانيات التى تعج بها التجربة الإنسانية.
يتساءل المتفلسف حديث العهد بالفلسفة: على أى رصيف من الساحة المركزية للفلسفة يمكننا أن نقف من أجل تأمل المشهد ومحاولة الفهم، فيجيبه الفيلسوف: عليك أن تتكلم وتمشي، لأنك إن ظللت واقفا أو رغبت فى الوقوف والتأمل فإن قطار الفلسفة سيفوتك بيسر كبير...
هل الشك فى اليقين الواحد؟
هل قدر الاتجاهات المتقابلة هو أن يكتفى كل اتجاه بما لديه بحجة أن لكل اتجاه يقينياته العرضية وعرضيته التى تزن زنة اليقين؟
خلاصة القول
عصرنا قلق من الالتزام بأى شيء. يقول بلا مبالاة: عندما نشك فى كل شيء تبقى لنا منظومتنا هذه هى اليقين الوحيد... لا نثق إلا فى قدرتنا على الشك والرفض...
عصرنا يعكف بتعنت كبير على نقض المشروع الإنساني... قتل الأب ونسف التاريخ والثقافة... ولكنه لا يراجع كثيرا ما حققه: حربان كونيتان. سياسات تحتقر البشر والبشرية. تراجع شديد عن الإضافة الإنسانية. تغييب الحق لفائدة المصلحة. تحويل المصالح إلى قيم شبيهة بالحق.
أما إذا سألت الفلسفة الحديثة: ما هدفك فى نهاية الأمر؟ 
فإنها سوف تقول لك: أريد أن أخلق الإنسان...!