الخميس 18 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

نقد هابرماس للنموذج الوضعي في المعرفة

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
راج الحديث عن حياد العلم وعدم انحيازه وكأنه يستهدف حقائق مطلقة مجردة ثابتة، وكأن العلم لا وطن له، وذهب أصحاب هذا الرأى إلى حد القول بأن الحقيقة العلمية تفرض نفسها على العقل فى أى مكان أو زمان، بقوة البرهان والمنطق وحدهما، أى أن الحقيقة العلمية بطبيعتها عالمية، ولا مجال للتفرقة القائمة على أسس قومية. وهذا ما قال به على نحو واضح أصحاب الاتجاه الوضعى فى المعرفة. 
إن الفيلسوف الألمانى وعالم الاجتماع «هابرماس» Jürgen Habermas - الذى وُلِدَ فى الثامن عشر من يونيه عام 1929، وما زال حتى اليوم يعيش بألمانيا - قد تصدى لأصحاب الاتجاه الوضعي، إذ اتخذ موقفًا نقديًا من الفلسفة الوضعية المنطقية وأصحابها، وهاجم موقفهم من العلم والمعرفة العلمية، الذى يتلخص فى القول إن العلم يتصف بالحياد والموضوعية على نحو تام ومطلق. ينفى «هابرماس» وجود حياد أو براءة أو صفاء علمي. 
ويُعَـد الاتجاه الوضعي، فى نظر هابرماس، تعبيرًا عن ذلك الجنوح إلى تحنيط العلم لدرجة يتحول معها إلى إيمان جديد واثق من قدرته الهائلـة على تقديم أجوبة لكل الأسئلة المطروحة، واقتراح حلول ناجعة لكل القضايـا. أما النـزعة التقنية فهى الجنوح إلى اعتبار التطبيق العملى للمعرفة العلمية هو وحده الكفيل بتقدم المجتمع؛ بل إنـها تنظر إلى التكنولوجيا بوصفها وسائل محايدة قوامها التوظيف العملى للمعرفة العلمية، ومتناسية أن التكنولوجيا تحول الإنسان نفسه إلى وسائل وأدوات، فتقمع طاقاته الإبداعية والتحررية. بـهذا المعنى يتحول العلم والتكنولوجيا إلى «أيديولوجيا» ينبغى انتقادها من خلال نقد الحداثة والمجتمع الحديث الذى يجمع بين العلم والتقنية والصناعة، وقام بتحويل ذلك إلى «قوة منتجة أولى». فمنذ أن تحول العلم إلى قوة منتجة ذات وظائف اجتماعية، بات قوة أيديولوجية بوصفه يلعب دورًا أساسيًا فى منح المشروعية للنظام الاجتماعى والسياسى الحديث المؤسس على العقلانية التقنية.
أما «النموذج المعرفى» فيعنى به «هابرماس» صورة عقلية للعالَـم تشكل ما يمكن تسميته «خريطة معرفية»، ينظر الإنسان من خلالها للواقع. والنموذج لا يوجد جاهزًا بل هو نتيجة عملية تجريد عقلية مركبة (تفكيك وتركيب) إذ يقوم العقل بجمع بعض السمات من الواقع فيستبعد بعضها ويُبْـقِى البعض الآخر، ثم يقوم بترتيبها بحسب أهميتها ويُركِّبِها، بل أحيانًا يضخمها بطريقة تجعل العلاقات تشكل ما يتصوره العلاقات الجوهرية فى الواقع، وتسمى هذه النماذج «نماذج إدراكية»، لأن الإنسان يدرك الواقع من خلالها، وتسمَّى أيضًا «نماذج معرفية»، أى أنها عادةً ما تحتوى على بُعد معرفى (كلى ونهائى). والنماذج (أو الخرائط) الإدراكية والمعرفية تولد إدراكًا مختلفًا من شخص لآخر ومن حضارة لأخرى لنفس الظاهرة.
ولقد انتقد «هابرماس» النموذج الوضعى السائد للمعرفة، وبيَّن أنه يمثل أحد نماذج المعرفة البشرية القائمة على تحقيق المصلحة. والواقع أن هذا النموذج المعرفى الذى يهدف إلى التحكم والضبط التقنى قد جَارَ على نموذجين آخرين يقومان على مصالح معرفية أخرى ويعبران عن حاجات وتوجهات تأملية ومعيارية وجمالية وعملية يمكن أن تلقى الضوء على مشكلة «عقلنة» المجتمع. ولذلك يقوم «هابرماس» بتمييز ثلاثة أنواع من المعرفة العلمية المرتبطة بثلاثة أنواع من المصالح البشرية. فالنوع الأول وضعى أو تجريبى - تحليلى يهدف إلى صياغة قوانين عامة يمكن أن تؤدى إلى تنبؤات صادقة يُعتَمَدُ عليها (كما نجد فى العلوم الطبيعية). أما النوع الثانى فيتعلق بالعلوم التاريخية والتفسيرية التى تتجه لتحليل النصوص والأفعال البشرية وتأويلها. وأما النوع الثالث والأخير فيتمثل فى العلوم والفلسفات التى تتسم بالتوجه النقدي، وتسترشد أو ينبغى أن تسترشد بتحقيق مصلحة أو اهتمام أساسى هو التحرر والخلاص. وهذا النوع من العلوم والفلسفات يسعى إلى نقد الأيديولوجيات، أى نقد المنظومات الفكرية المنغلقة، إنها فلسفات تعمل على كشف القوى والمصالح الخاصة التى تشوه فعل التواصل، وتبحث الشروط اللازمة للتوصل إلى إجماع حقيقى لا يعوقه قهر أو قمع داخلى أو خارجي، والتحرر من أشكال السيطرة وأبنيتها. 
حرص «هابرماس» على «وضع الأنماط المختلفة للمعرفة داخل البناء العميق للخبرة الإنسانية»، مما ينجم عنه أن تغدو المعرفة «توجيهات» عامة ترشد الأوجه المتعددة للبحث وترشد الفعل. والحقيقة إن محاولة ربط المعرفة الإنسانية بالمصلحة تعد تحديًا لأنصار النظرية الكلاسيكية الذين يذهبون إلى أن العلم مستقل عن المصالح البشرية. فلقد أصر أنصار المذهب الوضعى باسم مفهوم الطبيعة الموجودة بصورة مستقلة عن الذات الإنسانية على ضرورة فصل الذات والموضوع أو قل: فصل الحياة والمعرفة، أو فصل العلم والممارسة العملية. نهج هذا المنهج أيضًا أنصار المذهب التاريخي. وفى مقابل هذا يحاول «هابرماس» البرهنة على ضرورة مشاركة المصالح الإنسانية فى المعرفة وعلى الارتباط الوثيق بين العلم وتطبيقاته العملية. لقد أراد أن يطرح من جديد مسألة الصلة الملغاة بين المعرفة والمصلحة interest. ذلك أن جميع العمليات المعرفية تقوم على أساس اهتمامات مرشدة تبقى عادًة دون اعتراف بها. لقد أراد «هابرماس» التأكيد من ثمَّ أن المعرفة الإنسانية لا يمكن أن تنفصل عن المصلحة وهذا يبين أنه كان يحاول أن يكشف جذور المعرفة بداخل مجال الحياة الإنسانية، وهذا بدوره يؤكد لنا أنه كان حريصًا على أن تكون ثمَّة علاقة بين النظرية والعمل. 
يضع هابرماس على عاتقه، إذن، مهمة كشف الغطاء عن الوهم العلمى والتقنى الذى يجعل النموذج التكنوقراطى النموذج الأسمى فى العلاقة بين القرار السياسى والمعرفة العلمية. ويرى أن التكنولوجيا تضفى على الأشياء صفة الأدوات وتحيلها إلى مجرد وسائل فتنقلب بذلك إلى عائق أمام التحرر إذ يتحول الإنسان نفسه فيها إلى أداة. ويعترض على النـزعات الوضعية بخصوص موقفها من العلوم التجريبية؛ ودورها الأيديولوجى كنـزعات تضفى صفة الشرعية على أشكال الرقابة والقمع فى المجتمع الصناعى المتقدم برفعها شعار «حيـاد» العلم والتقنية وبراءتهما، ومناداتها بضرورة توفر ذلك حتى فى العلوم الاجتماعية كشرط للحاقها بركب العلوم الدقيقة. وهو شرط يتجاهل خصوصية العلوم الاجتماعية ونوعية أساسها الإبستمولوجي، كما يتغافل عن المحدودية المنهجية والمفاهيمية والإجرائية لكل حقل علمي. ومن ثمَّ يؤكد «هابرماس» أنه لا حياد فى الممارسة العلمية إذ كل نمط من أنماط المعرفة يخضع لتوجيه مصلحة معينة. ومن أجل الكشف عن المصالح الكامنة خلف كل نشاط معرفى تتعين ممارسة النقد فى بعده الاستكشافى الحفري.