الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

للحرية جوامع وموانع

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
من أكثر العبارات التى تتردد على ألسنة الشباب الثائر دومًا «أنا حر»، ولم يحاول جل شبابنا البحث عن القيم المستترة وراء مصطلح الحرية، ولم يفكروا كذلك فى التطبيقات ذات الصلة المباشرة بهذا المصطلح الأخطر عبر سلوك الأفراد وحياة المجتمعات، فللحرية جوامع وموانع لا يمكن التغاضى عنها أو الفكاك منها، فلا وجود للحرية فى المجتمعات الجاهلة التى يعانى أفرادها من التخلف الحضارى وعبادة الأوهام وتقديس الخرافات، والرضوخ لسلطة البطل وسطوة الزعامة، فللحرية حزمة من القيم لا عيش لها بدونها، وعلى رأسها الوعى والعدالة والإرادة النابعة من الخبرة والحنكة وحسن التقدير، والقدرة على الفحص والانتقاء والصدق فى البوح والشجاعة فى الدفاع عن الرأى والنقد، ناهيك عن احترام حقوق الأغيار والالتزام بقيم المشخصات والارتقاء بالذوق العام، كما أن للحرية خصومها الذين لا مفر من مواجهتهم، وفى مقدمتهم الأنانية والكذب المضلل والخادع والسلطة الجائرة والرأى المستبد، والمستسلم للعوز، وسجين الشهوات والقامع للمخالفين والفوضوى الأحمق، والمتمرد الجامح. ذلك فضلًا عن كل من يتخذ من الفحش والإباحية ضربًا له ومنهاجًا فى الخصومة. 
وحسبنا أن نوضح أن حق البوح المضاد للخرس واعتراض الصامتين من القيم التى لا يمكن إغفال مقاصدها ومآلاتها لكى نحكم عليها بأنها قيم إيجابية تدرج فى معية الحرية أو تبيت فى معسكر أعدائها، أما النزعة الفوضوية (anarchism) فلا يمكن النظر إليها على أنها إحدى صور حرية الأفراد، وذلك لما يترتب عليها من تطرف يصل إلى حد الإرهاب غير العابئ بحقوق الأغيار، أو إن شئت قل الإرهاب بكل أشكاله ودرجاته، فالفوضى ترفض كل صور الإلزام الخلقى بغض النظر عن مصدره - الشرع، القانون، المسئولية.
والغريب أن المستنيرين العرب المحدثين قد فطنوا إلى البون الشاسع الفاصل بين جوامع الحرية وموانعها، فالحرية عندهم حق إنسانى وقيمة فاضلة وشرعة مهذبة لسلوك الفرد والمجتمع، ومن ثم أدرجوها ضمن منظومة الأخلاق. 
والجدير بالإشارة - فى هذا السياق - التأكيد على أن فلاسفة الغرب المحدثين الذين أنتجوا الفلسفات العلمانية قد ميزوا بين الحرية والفوضوية والعدمية، وبينوا أن الدعوة للحرية لا تعنى أبدًا هدم كل السلطات والقيم التى يدين بها الفرد بفعل النشأة والتربية أو السلطات السياسية والاجتماعية والأدبية التى تقوم سلوك الأفراد، وعليه لا حجة للشباب الذين يتشيعون لموانع الحرية باسم الديمقراطية الغربية، فقد رفض معظم اليمينيين واليساريين من المثقفين الصور الهدامة المصاحبة لمصطلح الفوضوية عند ظهوره فى كتابات وليم جودن (١٧٥٦ – ١٨٣٦) فى كتابه المعنون «بحث فى مبادئ العدالة السياسية» (١٧٩٣)، وكذا فى كتابات «برودون» (١٨٠٩ - ١٨٦٥) وباكونين.
وقد أدرك مفكرنا زكريا إبراهيم أن علة تمرد شبيبتنا ومن نحا نحوهم من الشيوخ فى ذلك المفهوم المتوهم للحرية، فراحوا يصرحون بآراء جامحة وأفكار مريضة وشائعات مغرضة وأفكار ملتبسة، وذلك كله باسم الحرية وحقوق الإنسان، والتمرد على الواقع والرغبة فى التغيير والإصلاح.
وبين مفكرنا أن مثل هؤلاء لم يميزوا بين ضربين من ضروب الحرية، أولها حرية التفكير وهو أمر مباح شريطة قيامه على نسقية أو منهجية ليكون مثمرًا، وتقع مسئولية هذا الضرب من ضروب الحرية على الفرد وحده وقناعاته وأحكامه واختياراته، أما الضرب الثانى فيمثله الخطاب الإصلاحى التوجيهي، وهو خطاب نقدى مقصده الأول التقويم وفضح الفساد والكشف عن مواطن الخطأ، وذلك بعد التأكد من سلامة مضمون الخطاب الذى يعبر قائلة خلاله عن مخالفته للسلطات القائمة أو المفاهيم الزائغة، ومن هنا تبدو المسئولية الأدبية التى يجب أن يتحلى بها صاحب الخطاب التوجيهى الحر الذى يخاطب الرأى العام، ويسوق مفكرنا مثالًا على هذين الضربين: شخصًا يحمل مسدسًا محشوًا بالرصاص يوجه فوهته صوب رأسه، وآخر يصوبه ناحية الآخرين، فالأول حر وإن كان عابثًا أو منتحرًا، أما الثانى فإنه حتمًا سوف يصيب الآخرين، ومن ثم يجب عليه أن يكون دقيقًا فى إصابة هدفه الذى يوجه إليه رأيه الناقض وهو مدرك فى الوقت نفسه عاقبة ذلك الفعل ومردوده على نفسه وعلى غيره فى آن واحد، ويقول: «إن الفكر الحر لابد أن يفرض على صاحبه التزامًا حرًا أمام الغير، والكتابة - بهذا المعنى - تعاقد حر كريم بين الكاتب والقارئ، أساسه الثقة المتبادلة بين الواحد منهما والآخر، ودعامته مواجهة الحرية الواحدة منهما للحرية الأخرى، وما دام المفكر لا يفكر إلا لقوم أحرار، وما دام الكاتب لا يكتب إلا فى مجتمع حر، فإن الفكر الحر سيظل دائمًا أبدًا حليفًا لذلك النظام الأوحد الذى يكون للكتابة فيه معنى، ألا وهو نظام الديمقراطية». 
ويتميز مفكرنا بتوضيحه للمنهج الذى ينبغى على من اعتلوا منبر الحرية الالتزام به، وذلك فى قوله: «ليس من حق من شاء أن يكتب ما شاء كيفما شاء، وإنما لابد لكل كاتب من أن يأخذ على عاتقه كتابة الكلمة البناءة التى تسهم فى رفع شأن الفكر وإعلاء راية الثقافة، ولا يمكن أن يكون معنى حرية الفكر هو العمل على بلبلة أفكار الناس أو بث روح الاضطراب والفوضى الفكرية فى نفوس الشباب، وإنما لابد من أن تكون حرية الفكر أداة فعالة ناجعة يتخذ منها المجتمع وسيلة للعمل على إتاحة الفرص أمام الجميع لإثارة قضايا المجتمع العربى المعاصر فى صدق وصراحة وأمانة فكرية، وليس أخطر على الحياة الفكرية فى أى مجتمع من أن تكون الثقافة التى يحيا عليها أفراد ذلك المجتمع مجرد أفكار جاهزة أو إطارات عقلية جامدة يسلم بها الناس تسليمًا، دون أن يتساءلوا عما تنطوى عليه من معان ودلالات. وما الفكر المفتوح الذى لا يكف عن معاودة البحث ومطارحة المسائل، دون التمسك بأية آراء مسبقة، أو التشبث بأية أفكار جاهزة، فهو وحده الفكر الحر الذى ينطلق فى آفاق البحث العقلي، غير متقيد إلا بما يمليه عليه المنطق والاستدلال المنهجى السليم». 
ويضيف فيلسوفنا أن من أسباب تخبط شبابنا ووقوعه فى أخدود الأوهام العبثية هو عزوفه عن تعلم الفلسفة التى تمكنه من الالتزام بمنهجية ونسقية التفكير، لذا نجده يناشد كل المصلحين الحقيقيين من قادة الرأى والسلطات الحاكمة والمسئولين عن التثقيف والتعليم بث أو إحياء التثقيف الفلسفى فى حياتنا الاجتماعية والسياسية والأخلاقية والأدبية والتربوية والدينية، وذلك لأن طوق النجاة من أمواج الجموح والجنوح المتلاطمة التى سرعان ما تقذف بالجالسين على كراسى المسئولية إلى منحدر الجهالة والعنف والتطرف. 
ويقول: «إننا أحوج ما نكون اليوم إلى تفكير منهجى لا يستخرج من المقدمات إلا ما يلزم عنها بالضرورة من نتائج، ولا يترك فى سلسلة استدلالاته العقلية أية فجوات أو ثغرات، بل يحاول دائمًا أن يلتزم فى أبحاثه ودراساته قواعد المنهج الديكارتى (الفكر الواضح المتميز القابل للتحليل والتركيب والمراجعة)، وإذا كنا قد دأبنا على الانتقاص من قيمة الفلسفة والتقليل من شأن التفلسف فذلك لأننا قلما ندرك دور الثقافة الفلسفية فى تزويد أبناء هذا الجيل بروح الوعى والتحديد والصرامة» بما فى ذلك الدقة فى استخدام المصطلحات، ومراعاة التسلسل المنطقى فى تنظيم الأفكار، والتزام قواعد البحث العلمى فى التفكير، وما أحوجنا إلى إدخال الثقافة الفلسفية والمناهج العلمية على شتى مناهجنا التعليمية فى كل كلياتنا الجامعية.
تلك كانت قراءتى لقضية الصراع بين الشباب والشياب من منظور فلسفى عرضت فيه لأشهر وأهم رؤى الفلاسفة قدماء ومحدثين وشرقيين وغربيين لهذه القضية، وحسبى أن أشير إلى الكثيرين الذين لا تقل كتاباتهم أصالة وطرافة عما ذكرتهم، ولاسيما من المفكرين المصريين التنويريين الذين اهتموا بهذه القضية. أذكر منهم محمد حسين هيكل فى كتابه «ولدي» ١٩٣١، ومقالات أحمد أمين فى كتابه «فيض الخاطر» ١٩٣٦ عن سلطة الآباء، مشاكل الشباب وكيف تعالج، حديث إلى الشباب، مقياس الشباب، لماذا كفر الشباب بالزعماء،. ومصطفى لطفى المنفلوطى فى كتابه «النظرات» حول من الشيوخ إلى الشباب، وعبدالرحمن بدوى فى كتابه «هموم الشباب»، وطه حسين فى مقالاته حول «رعاية الشباب» ١٩٤٩ وأحمد حسن الزيات فى كتابه «من وحى الرسالة: حول نهضة الشباب، حوار سياسى بين شيخ وشاب»، وعباس العقاد فى كتابه «اليوميات» حول الشيوخ والشباب، ومشكلات الشباب، ومساعى الشباب.. حذار من الخطوة الخاطئة، وعثمان أمين فى كتابه «دروس للشباب فى سيرة الأستاذ الإمام «١٩٦٤ وأحمد حافظ عوض فى كتابه «من والد إلى ولده». 
وانطلاقًا من هذه الكتابات التى تمتاز بالجدة والأصالة أعتقد أننا أحوج ما نكون إلى الانتقال من طور التمرد والعبثية إلى طور النقد الحر وتحمل المسئولية، ولشبابنا حرية الاختيار بين العيش فى كنف الحرية وجوامعها أو الخضوع إلى قدر موانعها.