رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ثقافة

نهاية 2018.. الغرب في أزمة و"الليبرالية الجديدة" في قفص الاتهام

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
مع اقتراب عام 2018 من أوراقه الأخيرة تتصاعد المقاربات الثقافية والكتابات والكتب التي تؤكد أن الغرب يعاني من أزمة شاملة تنسحب تداعياتها على العالم ككل فيما باتت "الليبرالية الجديدة" المتهم الأول في هذه الأزمة التي تمسك بخناق العالم".
وهاهو كتاب جديد يصدر بعنوان:"أزمة ألمانيا الخفية" وفيه يؤكد الكاتب اوليفر ناشتوي أن ألمانيا التي كانت توصف بالدولة الأقوى اقتصاديا والأغنى في أوروبا تعاني من حالة تراجع وتأزم اجتماعي في قلب أوروبا فيما يعتبر أنها ابتليت بمرض اللامساواة مثل بريطانيا.
وفيما يتوقف مطولا عند دلالة وصول عناصر تحمل أفكارا فاشية للبرلمان الألماني لأول مرة منذ اندحار الحكم الهتلري وسقوط "الرايخ الثالث" يقول أوليفر ناشتوي مؤلف هذا الكتاب الجديد أنه على الرغم من أن المانيا هي الدولة الأغنى في القارة الأوروبية فإنها صاحبة العدد الأكبر من العمال الفقراء قياسا على أي دولة أخرى من دول الاتحاد الأوروبي.
ويضيف اوليفر ناشتوي وهو اكاديمي يعمل كأستاذ مساعد في علم تحليل البنية الاجتماعية بجامعة بال وباحث مشارك بمعهد البحوث الاجتماعية في فرانكفورت ان عاملا من بين كل أربعة عمال في المانيا يتقاضي راتبا دون الحد الأدنى للأجور لافتا الى ان كتلة كبيرة من العمال اللمان امست بحاجة لاعانات من الدولة.
وعند الحديث عن الشباب االألماني يستخدم ناشتوي مصطلحات مشحونة بدلالات الأزمة مثل "البريكاريا" وهو مفهوم اجتماعي-اقتصادي مشتق من مصطلح "البروليتاريا" او الطبقة العاملة ويعني هشاشة الأوضاع الاجتماعية-الاقتصادية للشباب العامل في هذه الدولة الأوروبية جراء تناقص فرص العمل وانخفاض الأجور.
ولئن أورد هذا الكتاب إحصاءات دالة ولاحظ البروفيسور اوليفر ناشتوي ان ثلث الطلاب في الجامعات الألمانية يشعرون بخوف بالغ من احتمال انخراطهم ضمن " البريكاريا" فالمثير للقلق أيضا أن "البريكاريا" يمكن أن تفضي إلي وقوع الشباب فريسة للأفكار المتطرفة في زمن مد "الشعبوية" بكل مايعنيه ذلك من ارتفاع منسوب كراهية المهاجرين من دول أخرى.
وهذه الأوضاع الاجتماعية-الاقتصادية الهشة تؤثر سلبا على سياقات الحداثة كما تعد النساء في مقدمة ضحايا تلك الأوضاع المقترنة بتصاعد اللامساواة بقدر "ماترفع منسوب الخوف من المستقبل وتلحق اضرارا حتى بالحياة الزوجية".
ويذهب مؤلف كتاب "أزمة ألمانيا الخفية" إلى أن " الفقراء في هذه الدولة يزدادون فقرا والأغنياء يزدادون غنى في دولة كانت تفخر بأنها نموذج "للحراك الاجتماعي الإيجابي والمساواة في الفرص" فيما يرى أوليفر ناشتوي أن "الليبرالية الجديدة هي اصل الداء".
واعتبر ناشتوي أن "النيو ليبرالية" ولدت واقعيا في الخامس عشر من أغسطس عام 1971 عندما أعلن الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون نهاية عصر العملات المقومة بالذهب ليكون الدولار الأمريكي عمليا هو السيد الجديد للنظام النقدي في العالم بدلا مما عرف بنظام "بريتون وودز" الذي عرفه العالم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
ويرى اوليفر ناشتوي ان هذا الإعلان الذي عرف "بصدمة نيكسون" كان يشكل "ثورة الرأسمالية" ردا على ثورات الطلاب التي بلغت ذروتها في فرنسا قبل نحو ثلاثة أعوام من "اعلان نيكسون"مضيفا ان ثورة رأس المال حققت مكاسب للرأسمالية في الغرب من بينها زيادة الصادرات لبلد كأالمانيا الغربية حينئذ غير انها هزت في المقابل أعمدة الديمقراطية الاجتماعية في هذا البلد والتي كانت تؤسس لمجتمع قائم على المساواة وينعم بالرفاهية في ظل أفكار حداثية تقدمية لمثقفين كبار مثل الفيلسوف وعالم الاجتماع يورجن هابرماس.
ورغم ان المفكر الألماني-الأمريكي هربرت ماركيوز الذي قضى عام 1979 معروف بتنظيراته اليسارية في المجتمعات الصناعية المتقدمة فان اوليفر ناشتوي يعتبر أفكاره حول "المسؤولية الفردية" أسهمت عمليا في صعود الليبرالية الجديدة "التي غيرت قلب وروح أوروبا".
فالليبرالية الجديدة في نظر مؤلف هذا الكتاب الجديد افضت "لسحق الذات الشخصية واستلاب الفرد" فيما عجزت عن بناء نموذج مقبول "لدولة الرفاهية" لتكون المحصلة ان "المانيا في ازمة" شأنها في ذلك شأن بقية دول أوروبا وفي مقدمتها فرنسا وبريطانيا ناهيك عما يحدث الآن في الولايات المتحدة التي تقود "النيوليبرالية".
وتثير "الليبرالية الجديدة" كفلسفة سياسية واقتصادية جدلا ثقافيا واسع النطاق في العالم وخاصة في الغرب وهو جدل غير بعيد عن قضايا موضع اهتمام بالغ من المثقفين في كل مكان مثل قضايا الديمقراطية والعدالة الاجتماعية والمساواة.
وعلى امتداد العالم ثمة نقاشات ثقافية جادة حول "تصويب مسارات الليبرالية الجديدة واهمية تدخل الدولة لضمان انضباط السوق والحيلولة دون انتهاك مباديء العدالة الاجتماعية " فيما رأى أصحاب مقاربات ثقافية لهذه القضايا "اننا نحتاج الى ابداع سياسي لكي نرتاد بخيال خلاق عالم ديمقراطية المشاركة الكفيلة بتصحيح العيوب الأساسية في بنية الديمقراطية النيابية التقليدية".
والديمقراطية بمفاهيمها الأساسية وتطبيقاتها المعاصرة في الغرب هي جزء لايتجزأ من المذهب الليبرالي الذي يقوم على فلسفة الحرية والاعلاء من قيمها على كافة المستويات ورغم الانجازات غير المنكورة لهذا المذهب في الحياة الانسانية فان ثمة شعورا عاما حتى في الغرب بأن مايعرف "بالليبرالية الجديدة" او التطرف في سياسات السوق الحرة والاحتكام لآليات السوق وحدها افضى لاشكاليات خطيرة وخاصة فيما يتعلق بمفاهيم العدالة الاجتماعية.
وفي ظل هذا الشعور توالت وتتوالى الدعوات من منابر ووسائط ثقافية متعددة في الغرب والشرق لاجراء مراجعات عميقة "لمفاهيم الليبرالية الجديدة" ومواجهة الخلل في ممارساتها خاصة بعد ان اظهرت الأزمة المالية والاقتصادية العالمية منذ اكثر من عقد والتي كانت بؤرتها في الولايات المتحدة ان الليبرالية الجديدة والافراط في مفاهيم السوق الحرة بعيدا عن أي تدخل للدولة لاتشكل النموذج الأمثل للاستقرار والازدهار.
وهكذا ظهرت طروحات مضادة لليبرالية الجديدة وتوحش آليات السوق وهاهو جورج مونبيوت يقول في طرح جديد بعنوان دال:"الليبرالية الجديدة..الأيديولوجية في اصل كل مشاكلنا" ان هذه الفلسفة الرأسمالية المتطرفة مسؤولة عن العديد من المشاكل الاقتصادية والسياسية والبيئية في العالم بل انها "تخرج من البشر اسوأ مابداخلهم".
فالليبرالية الجديدة كما يؤكد البريطاني جورج مونبيوت في طرحه الثقافي مسؤولة عن الأزمة المالية والاقتصادية العالمية الأخيرة والانهيارات في منظومات التعليم والصحة والبيئة واستفحال الفقر وحتى عمالة الأطفال وتزايد شعور الانسان المعاصر بالعزلة والوحدة الموحشة معتبرا ان مقولة اساسية من مقولات هذه الفلسفة وهي:"السوق تضمن ان يحصل كل شخص على مايستحقه" ليست بالمقولة التي تضمن العدالة للجميع.
ولئن كانت هذه المقولة غير بعيدة عن النظرية الداروينية الشهيرة في النشوء والارتقاء ومقولة داروين او قانونه البيولوجي:"البقاء للأصلح" فان جورج مونبيوت يختلف معها بشدة ويرفض "خصخصة الخدمات العامة" معبرا بذلك عن تيار له ثقله بين المثقفين في الغرب.
وقبل هذا الطرح انبرى مثقفون بارزون في الغرب مثل الكندية ناعومي كلاين لتتحدث عن "مبدأ الصدمة و"رأسمالية الكوارث" وتندد بأفكار المدرسة القائدة لليبرالية الجديدة والمعروفة "بمدرسة شيكاغو" والتي دانت بالولاء للراحل ميلتون فريدمان"فيلسوف النيو ليبرالية".
ولئن كان ميلتون فريدمان قد اشتهر بمقولة:"في الأزمات والصدمات يمكن احداث تغييرات حقيقية" فان ناعومي كلاين ترى أن هذه التغييرات انما تستغل الكوارث والشدائد لصالح شرائح رأسمالية لاتعنيها مصالح الجماهير او آلام الشعوب.
وإذا كانت "الليبرالية الجديدة" قد فشلت كما يرى مثقفون كبار في الغرب فإن السؤال الطبيعي يكون عن البديل لهذه الفلسفة الاقتصادية والسياسية التي بدأت عمليا منذ "صدمة نيكسون عام 1971" وسادت منذ صعود مارجريت تاتشر ورونالد ريجان لسدة الحكم في بريطانيا والولايات المتحدة.
وإذ يتعرض النموذج الليبرالي الغربي لأزمات متعددة وتحديات متلاحقة يسلم المفكر الأمريكي والياباني الأصل فرانسيس فوكوياما الذي اصدر هذا العام كتابا جديدا بعنوان "الهوية" بأن المشهد العالمي بات يختلف كثيرا عن ذلك المشهد الذي ساد عندما ظهر كتابه المثير للجدل بعنوان "نهاية التاريخ" وكأنه يحتفل وقتها بما بدا وكأنه الانتصار النهائي للغرب الرأسمالي بقيادة الولايات المتحدة بعد ان انهارت منظومة دول حلف وارسو بقيادة الاتحاد السوفييتي السابق في مطلع تسعينيات القرن الماضي.
ولاريب أن هذه التغيرات في المشهد العالمي لها انعكاساتها على قضايا الهوية حتى أن هذا المفكر الأمريكي يدعو الآن لإعادة تعريف الهوية في إطار الدولة الوطنية فضلا عن الروابط القومية الجامعة والتي تتجسد في كيانات سياسية-اقتصادية مثل الاتحاد الأوروبي.
والكتاب الجديد لفوكوياما بشأن سياسات الهوية يأتي في "لحظة عصبية بمشهد عالمي عصيب" فيما يحاول هذا المفكر والأستاذ الذي يشغل الآن منصبا مرموقا بجامعة ستانفورد الأمريكية عبر التوغل في قضايا الهوية أن يعثر على المفتاح لفهم وتفسير هذا المشهد العصيب.
واللافت أن فوكوياما وهو يتحدث عن "الهوية" التي تفخر بها كل أمة وهي تدافع عن هويتها كما يشير "للرابطة القومية الثقافية" قد وجه انتقادات مريرة لليسار المتطرف واليمين المتطرف معا في الغرب وكأنه يدين التطرف بكل صوره وأشكاله فيما أعلى من شأن ما يسميه "بالهوية الإنسانية العالمية".
ولليبرالية الجديدة انعكاساتها الثقافية الحادة في قضايا مثل "تسليع الفن" بينما تثير العلاقة بين الفن والسوق جدلا بين المبدعين من الفنانين والأدباء سواء في الغرب أو الشرق وسط متغيرات سريعة في العالم ومنجزات تقنية ينظر لها بعض الفنانين بتوجس واجتهادات لطرح بدائل أكثر انسانية من وجهة نظرهم.
إنها "نزعة عامة لدى اجيال جديدة من المبدعين للتحرر من سطوة آليات الليبرالية الجديدة وهي نزعة تتجسد في كتب ومعارض وفعاليات ثقافية متعددة وكلها توميء لمقاومة الفنانين لقوة السوق وسطوة الشبكة الرقمية العنكبوتية المعروفة "بالانترنت" بينما يذهب بعض الفنانين مثل هيتو ستيريل لاستخدام مفردات وعبارات توحي بصعوبة المهمة.
فحسب كلمات للمخرجة السينمائية والفنانة الألمانية هيتو ستيريل "ينبغي شن حرب على تسليع الفن وفساد السوق" وهذه الرؤية تتسق مع افكار جيل جديد من الفنانين في الغرب يدعو لاعادة النظر في كل شييء بما في ذلك "شبكة الانترنت" بعد أن تحول الفن المعاصر في اعتقاد العديد من المنتمين لهذا الجيل إلى "نوع أو نمط من العلاقات العامة تخدم القوى المهيمنة على السوق".
وللسينمائية والكاتبة الألمانية هيتو ستيريل رؤى غير تقليدية حيال قضايا الفن والمجتمع كما يتبدى في كتابها الجديد الذي صدر بعنوان:" فن السوق الحرة: الفن في عصر الحرب الأهلية الكوكبية" وتطرح فيه أسئلة شائكة حول المشهد الثقافي الراهن وسوق الفن.
ومن الواضح أن هذه الفنانة والمبدعة السينمائية وصاحبة الاهتمامات الفنية التشكيلية التي ولدت عام 1966 في ميونيخ تتخذ مواقف مضادة "لتسليع الفن أو تحويله إلى تجارة مربحة قي ظل آليات السوق" أو "التداخل بين بينالي الفنون وأقبية سبائك الذهب في البنوك".
وإذا كانت ثورة الطلاب في فرنسا عام 1968 قد غيرت مفاهيم ثقافية عندما نادت مثلا "بسقوط البنيوية في البلد الذي يعد مهد البنيوية باعتبارها نزعة متعالية تلغي التاريخ وتغترب بالإنسان في سجون النسق والبنية والنظام" فإن مفاهيم ثقافية متعددة قد تتغير في خضم المواجهة المريرة مع الليبرالية الجديدة التي تجد نفسها في نهاية هذا العام في "قفص الاتهام عن أزمة حادة في الغرب تفرز تداعيات كونية" !.