الأربعاء 24 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

البوابة القبطية

الراعي يكتب : مجد وسلام ورجاء

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
عندما وُلد ابن الله إنسانًا في بيت لحم، تحقيقًا لتدبير الخلاص، أنشد الملائكة في سمائها: "المجد لله في العلى، وعلى الأرض السّلام، والرّجاء الصّالح لبني البشر" (لو 14:2). إنّه نشيد من ثلاث كلمات: مجد وسلام ورجاء. حقّقها الله وسلّمها رسالةً لجميع النّاس.
فبميلاد ابن الله إنسانًا، يسوع المسيح، لخلاص البشر، تمجّد الله في السّماء؛ ويتمجّد في الأرض عندما نصنع السّلام في العائلة والمجتمع والكنيسة والدّولة، ونزرع الرّجاء في القلوب.
ما هو السّلام؟
في الميلاد يعلن يسوع المسيح أنه "أمير السلام" بحسب نبوءة أشعيا (أش 6:9)؛ وأنه "سلامنا" بشهادة بولس الرسول (أفسس 14:2)، وأنه "هبة الرجاء" المسكوبة في القلوب، كما أنشد الملائكة. وقد استودعنا سلامه هبةً لكي ننشره ونبنيه. وجعله شرطًا لنستحق البنوة لله، كما أعلن في إنجيل التطويبات، دستور الحياة المسيحية: "طوبى لصانعي السلام، فإنهم أبناء الله يدعون" (متى 9:5). علم القديس البابا يوحنا الثالث والعشرون في رسالته العامة "سلام على الأرض" أن السلام الحقيقي الشامل والدائم هو الذي "يتأسس على الحقيقة، ويبنى وفقًا للعدالة، وينتعش بالمحبة، ويتحقق بالحرية" .
هذا يعني أن الله هو مصدر السلام، وأن كرامة الإنسان مرتبطة بصنع السلام. في الكتاب المقدس، "السلام" لفظة تحتوي جميع أنواع الخيرات الروحية والمادية والمعنوية والاجتماعية التي يغدقها الله على البشر. فهو العيش الهنيء والطمأنينة والازدهار والنجاح ومسالمة الأعداء. بفضل هذه المعاني، أصبح السلام صيغةً للتحية والدعاء في الاستقبال واللقاء والوداع. وكذلك في ليتورجيا القداس، عندما يوجه الكاهن تحية "السلام معكم" أو "الرب معكم" كما في الطقس اللاتيني، إنما ينقل الدعاء بأن يكون المسيح مع الجماعة، ويسكب عليها ثمار الفداء.
السلام هدف يتوق إليه كل إنسان وكل جماعة، إذ لا حياة سعيدة بدونه: يتوق إليه الخاطئ سلامًا روحيًّا مع الله والجماعة، ويتوق إليه الجائع والعطشان والفقير والمريض سلامًا اجتماعيًّا؛ ويتوق إليه الجيل الطالع سلامًا ثقافيًّا وتربويًّا، ويتوق إليه المواطنون سلامًا سياسيًّا واقتصاديًّا وأمنيًّا. إذًا ليس السلام فقط انتفاء الحرب، وليس على الإطلاق سطوة الظالم على المظلوم، والقوي على الضعيف، وحامل السلاح على الأعزل.
الكنيسة صانعة السلام
إن الكنيسة المعنية بالإنسان من كل جوانبه وبخير المجتمع، تحمل قسطًا وافرًا من صنع السلام بمحبتها الراعوية. فروحيًّا، تبني الجماعة على أساس الإيمان والرجاء والمحبة، وتتعهد نقل كلمة الله معلمة الحقيقة بالكرازة والتعليم، وتعنى بتقديس النفوس عبر توزيع نعمة الأسرار. واجتماعيًّا، تنشئ مؤسسات خيرية، ومدارس، وجامعات، ومستشفيات، ومستوصفات، ومراكز متخصصة لذوي الاحتياجات من أطفال ومسنين ومعوَّقين ويتامى، وتسخو في الحفاظ عليها وتطويرها من أجل خدمة أوفر وأشمل. وإنمائيًّا، تساهم في النمو الاقتصادي بتفعيل ممتلكاتها، وتوفير فرص عمل في مؤسساتها لأكثر عدد ممكن من المواطنين.
والكنيسة بكل ذلك تصنع السلام المؤتمنة عليه من المسيح مؤسسها. فكما أنه بميلاده إنسانًا جعل الإنسان، كل إنسان، طريقه الأساسي، كذلك الكنيسة تواصل سلوك هذا الطريق برسالتها الروحية والاجتماعية والإنمائية. فتعتني بالإنسان في كل مكونات حياته: "تقف على حالته وتحفز طاقاته، تنبه لما يتهدده من أخطار، تحرره من كل ما يحول دون أن تصبح حياته أكثر هناءً، تعمل على تعزيز مقومات كرامته، تعتني بشخصه وحياته العائلية والاجتماعية والثقافية والوطنية. ذلك أن مصير الإنسان مرتبط بالمسيح ارتباطًا وثيقًا لا ينفصم، في ولادته وموته، وفي دعوته في الحياة، وفي خلاصه الأبدي" .
الدولة وسياسة السلام
لكن الكنيسة تحتاج إلى التعاون مع الدولة التي من واجبها الأول تأمين ما يتوجب عليها تجاه المواطنين من حقوق أساسية هي مصدر سلامهم. فكيف يتمتعون بالسلام، إذا حرموا الحق في العمل كضرورة معيشية وتحقيق للذات، ومن الحق في السكن للدفء والاستقرار،ومن الحق في إنشاء عائلة كحق طبيعي للحياة السعيدة والإنجاب، ومن الحق في الطبابة لحماية الصحة من المرض، ومن الحق في الغذاء لتعزيز سلامة الجسد والنشاط، ومن الحق في التعليم والثقافة لنمو المواهب والإسهام في تقدم المجتمع .
أجل، حرمان أي من هذه الحقوق إنما يحرم أصحابها من أن ينعموا بالسلام، ويتذوقوا طعم الرجاء الذي لا يخيب. أما تأمينها فتمجيد لله. ذلك "أن مجد الله الإنسان الحي المحرَّر من كل ما يعوق نموه البشري والروحي" . إن السياسة وجدت وأقيمت على مقدرات الدولة ومرافقها ومالها العام، من أجل تأمين هذه الحقوق لجميع المواطنين. وهي ترتكب خيانة بحقهم، إذا أهملت واجبها، أو ما هو أفظع، إذا تآكلها الفساد، وراح أصحابها يحللون كل السبل من أجل مصالحهم الخاصة ومكاسبهم غير المشروعة.
لا يحق للجماعة السياسية إهمال هذه الحقوق التي هي واجبات عليها، ولا حجب مساندتها للمؤسسات الكنسية التي تشارك الدولة في هذه المسؤولية الجسيمة، وتحمل عنها قسطًا وافرًا من هذه الواجبات، ولا يحق للمسؤولين في السلطة العامة التلكؤ عن أداء ما يتوجب على الدولة تجاه هذه المؤسسات من مستحقات مالية في وقتها، حمايةً لنشاطاتها في خدمة المواطنين، فيما هم يحمون الفساد والمفسدين، وتبديد المال العام، ويدعون بأن الخزينة فارغة، وأنّهم إذا دفعوا المستحقّات، فهم يسجلون ديونًا إضافيةً على الدولة. ومع ذلك ما زال أصحاب الشأن يماطلون في تأليف الحكومة منذ سبعة أشهر، ويتفننون في خلق العقد في كل مرّةٍ تصل الحلول إلى خواتمها. وهم غير آبهين بالخسائر المالية الباهظة التي تتكبدها الدولة والشعب اللبناني. أليس هذا جريمة؟ هذا ما أثار غضب الشعب أمس، فقاموا بتظاهراتٍ محقة، لا أحد يعرف عواقبها الوخيمة، إذا استمر السياسيون المعنيون في مناوراتهم؟
إن السلام المنتظر من السياسة السليمة هو "الإنماء الإنساني الشامل الذي هو الاسم الجديد للسلام"، أجل، "الإنماء هو الطريق المؤدي إلى السلام".
أين نحن في لبنان من هذا السلام الحقيقي، والمسؤولون السياسيون يمعنون في ضرب نمو الإنسان والمجتمع والدولة؟ لقد أنتجت ممارستهم السلبية المأزومة للعمل السياسي، أزمة اقتصادية واجتماعية ومعيشية خانقة حتى بلغت بثلث الشعب اللبناني إلى الأدنى من مستوى الفقر، وبثلاثين بالمئة من شبابنا وقوانا الحية إلى حالة البطالة، وفتحت واسعًا باب هجرة الوطن حسّيًّا ومعنويًّا. وبسبب الفساد المستشري في الوزارات والإدارات العامّة وتعطيل الحركة الاقتصاديّة وصلوا بماليّة الدّولة إلى حالة خطرة مع تزايد العجز وتراكم الدّيون. ومن جرّاء عدم الجدّيّة والاتّفاق على وضع خطّة واعية لعودة النّازحين واللّاجئين إلى بلادهم، ثقُل أكثر فأكثر عبئهم الاقتصاديّ والاجتماعيّ والأمنيّ على لبنان وشعبه.
تساؤلات وما القول عن الخوف من حرب جديدة مع إسرائيل، والدّولة لا تمتلك أحاديّة السّلطة والسّلاح، لكي تُخرج لبنان من ساحة الصّراع في المنطقة؟ فميثاقيًّا ودستوريًّا ودوليًّا لا تستطيع الدّولة اللّبنانيّة التّخلّي عن دورها في تنفيذ القرارات والسّياسات الدّوليّة وبخاصّة النّأي بالنّفس وتطبيق القرار 1701. ولا يحقّ لها التّنازل لأيّ طرف عن حقّها وواجبها بالقرار الأوحد في قضيّة الأمن القوميّ اللّبنانيّ وفي السّياسة الخارجيّة والعلاقات الدّوليّة.
ونتساءل أين هي مسؤوليّة رجال السّياسة عندنا، المنشغلين بمصالحهم وحصصهم، عن حماية دولة العيش المشترك والميثاق، فيما الممارسة الكيديّة والغدّارة الطّائفيّة والمذهبيّة في الإدارات العامّة، والجامعة اللّبنانيّة، والأمن الدّاخليّ تجنح بالدّولة إلى غير طيب العيش معًا الّذي أردناه ركيزة أساسيّة لديمومة وطننا وعقدنا الاجتماعيّ، وإلى غير مشروعنا اللّبنانيّ المحبّ للإنسان والحرّيّات والسّلام في دولة مستقلّة قادرة وحدها على حماية مواطنيها، وفرض طاعتهم لها. أين هم من تطبيق اتّفاق الطّائف نصًّا وروحًا، وقد مضى عليه ثلاثون سنة، وأرادوه مدخلاً لإعادة بناء الدّولة عبر توسيع المشاركة في الحكم والإدارة، وتعميمها ونشر اللاّمركزيّة الإداريّة الموسَّعة والإنماء الشّامل؟
لقد اعتبر البعض أنّ اتّفاق الطّائف آليّة تعويضٍ عن الماضي، والبعض الآخر أنّه شهادة تطويب استراتيجيّ وسياسيّ لأجزاء من لبنان، والبعض الآخر أنّه سماح للتّمتّع بخيرات البلاد. قليلون هم الّذين أدركوا أنّ التّعدّديّة الدّينيّة والثّقافيّة تجربةٌ صعبةٌ وحسّاسةٌ تستوجب إتقانها بعنايةٍ وصبرٍ، والتّقدّم بها نحو المواطنة، وصولاً إلى وطنٍ تسوده الثّقة المتبادلة، بحيث لا يخاف أحدٌ من أحد، بل يستطيع الكلّ تحقيق ذاته. ولا بدّ من تصحيح مسار خطر قوامه تطبيق لاتّفاق الطّائف والدّستور حسب موازين القوى، وهذا مخالف لهما، ويرمي البلاد في أزمةٍ تُعيدها إلى الوراء على مختلف الأصعدة، لدى كلّ استحقاقٍ لتشكيل حكومة وانتخاب رئيسٍ للجمهوريّة. فلا يجوز أن تطلّ علينا من حين إلى آخر نسخة جديدة مشوّهة لاتّفاق الطّائف.
دعاء "المجد لله في العلى، وعلى الأرض السّلام" (لو 14:2). هذا النّشيد هو نشيدنا اليوم، نشيد كلّ إنسان وشعب. كلّنا مدعوون لتمجيد الله، خالقنا ومخلّصنا ومعيلنا، من خلال صنع السّلام في أرضنا، في العائلة، والمجتمع، والكنيسة، والدّولة، ومن خلال زرع الرّجاء في القلب. هذا هو دعاؤنا لكم يا أبناء كنيستنا وسائر الكنائس وأبناء وطننا الحبيب، مقيمين فيه وفي المشرق، ومنتشرين في القارّات الخمس. لكم أطيب التّهاني بالميلاد المجيد، وأخلص التّمنيّات بالسّنة الجديدة 2019.
ولد المسيح! هلّلويا!".