الخميس 18 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

الاتحاد الأوروبي في مهب الريح

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
من الواضح أن كتلة الاتحاد الأوروبى ستواجه خلال عام ٢٠١٩ الكثير من الأسئلة المصيرية المربكة، التى ستمتد من انكفاء ألمانيا وفرنسا إلى الداخل بسبب عمق الأزمات الاقتصادية والسياسية المستمرة فى البلدين. مرورًا بمصير علاقتها بالمملكة المتحدة بعد خروجها من كتلة الاتحاد فى فبراير المقبل، ووصولًا إلى علاقاتها التجارية مع الولايات المتحدة الأمريكية. فالعواصف السياسية المتلاحقة التى تهبّ على أوروبا تنذر بالمزيد من الاضطراب وتذكّر بمرحلة ما بين الحربين العالميتين ومآلاتها المعروفة. وفِى هذا الوقت تبدو إدارة الرئيس الأمريكى دونالد ترامب سعيدة بهذا التفكك الذى تراهن عليه كى يتم تطويع الحلفاء تحت راية واشنطن. أما الرئيس الروسى فلاديمير بوتين، الذى بدأ منذ عام ٢٠٠٨ التقدم فى الجوار الروسى، فيرمق الاتحاد الأوروبى لجذب بعضه مراهنًا على شعبويين ووطنيين أكثر حماسًا للتعاطى مع موسكو. أما الصين البعيدة فتخترق الاتحاد الأوروبى من شرقه إلى البرتغال تحت لافتة «طرق الحرير الجديدة». إنه نوع من دومينو عالمى جديد تصبح فيه أوروبا الحلقة الأضعف ضمن التوازنات الدولية، والقطب الخاسر ضمن نظام دولى متعدد الأقطاب يمكن أن ينبثق يومًا من رحم مرحلة التخبط الحالية والفوضى الاستراتيجية التى تسودها. فمن ناحية ستغرق فرنسا، على الأرجح، خلال العام المقبل فى قضاياها المحلية، الأمر الذى سيحد من تأثيرها على شئون القارة الأوروبية. كذلك ستنزاح الاتجاهات السياسية الرئيسية فى ألمانيا أكثر نحو اليمين واليسار، بينما سيتم تفريغ الوسط الأكثر اعتدالًا. كما أن الصراع داخل الحكومة هناك سيقلل من فعاليتها وقد يفضى إلى انتخابات مبكرة. ومن شأن إجراء تصويت جديد فى هذه الظروف أن يفرز برلمانًا منقسمًا، ويؤدى إلى تعقيد محادثات تشكيل حكومة ائتلافية، ما سيؤدى إلى مزيد من تقليص الدور القيادى لبرلين فى الاتحاد الأوروبى. بالتأكيد هذا الانكفاء نحو الداخل من قبل كلٍ من برلين وباريس سيؤثر سلبًا على قضايا تهم الاتحاد مثل التطلع إلى فتح أسواق تصديرية جديدة فى آسيا. أو إكمال المفاوضات مع كتلة ميركوسور فى أمريكا الجنوبية أو حتى المحادثات مع أستراليا ونيوزيلندا.
وقد برزت فى الأيام الأخيرة أزمات حادة طالت بريطانيا وفرنسا وألمانيا، الدول الرئيسية فى الغرب الأوروبى. واتضح كم أن البريكست الذى هزّ الاتحاد الأوروبى يهزّ اليوم أكثر المشهد الداخلى البريطانى، وتبيّن أن الطموح الأوروبى للرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون أخذ يتبدد تحت وطأة حركة «السترات الصفراء». ومع تعيين خليفتها على رأس الحزب الديمقراطى المسيحى أخذ يخبو نجم أنجيلا ميركل التى رافقت صعود وانتكاس الاتحاد الأوروبى، وبالإضافة إلى هذا الاهتزاز الداخلى يبدو الاتحاد قطبًا محاصرًا بين كماشة أحادية دونالد ترامب واختراق فلاديمير بوتين. وهكذا ترتسم سنوات عجاف بالنسبة للفكرة الأوروبية التى تتعرض لتسونامى الصعود الشعبوى، وكذلك لإمكانية انعكاس الأزمات الداخلية والتفاوت الاجتماعى الحاد على ديمومة الاتحاد الأوروبى بحد ذاته إذا لم يظهر مشروع نهضوى ينقذ الاتحاد من كبوته.
ومن المتوقع ألا يوقع الاتحاد اتفاقية تجارة حرة شاملة مع الولايات المتحدة فى عام ٢٠١٩، لكنه سيكون مستعدًا لمناقشة اتفاق أكثر تواضعًا يشمل السلع الصناعية. وستكون بروكسل أيضًا منفتحة على الحديث عن إزالة بعض الحواجز غير الجمركية أمام التجارة. كذلك ستحاول الكتلة إقناع الولايات المتحدة بالتراجع عن فرض تعريفات أعلى على السيارات المنتجة فى الاتحاد الأوروبى. فإذا رفض البيت الأبيض واتجه إلى رفع التعريفات الجمركية، سيكون على الاتحاد الرد بتدابير مضادة. وفى الوقت نفسه، سيحاول الاتحاد إبقاء الولايات المتحدة منخرطة فى محافل دولية متعددة الأطراف، مثل منظمة التجارة العالمية، وسيتعاون مع البيت الأبيض فى ضغوطه على الصين بالنظر إلى قضايا مثل دعم الدولة وقيود الاستثمار الأجنبى.
من جهة أخرى، ستنظر بروكسل إلى بكين بوصفها قوة موازنة للولايات المتحدة. لكن الاقتصادات الكبيرة مثل ألمانيا وفرنسا ستقاوم اختراق الصين لأوروبا -خاصة فى المجالات الحساسة مثل التكنولوجيا والبنية الأساسية- فى حين سترحب الدول الصغيرة بالاستثمار الصينى كفرصة لتعزيز اقتصاداتها. وكلنا نذكر فى بدايات القرن الحادى والعشرين كان الاتحاد الأوروبى يعتبر نموذجًا للرخاء الاقتصادى والاندماج وواحة سلام بعدما حفل القرنان السابقان بحروب إقليمية وعالمية دامية. وكان اليورو العملة الموحدة من التجارب النادرة فى التاريخ. لكن منذ الأزمة المالية العالمية فى عام ٢٠٠٨ بدأ خط تراجعى فى مسار العمل الأوروبى المشترك وصل إلى البريكست فى ٢٠١٦. ومما لا شك فيه أن الذى ساعد، أو دفع، إلى بلورة هذا الواقع مناخات الفوضى الاستراتيجية فى العالم وفى القلب منها انعكاسات الصعود الروسى وأزمات اللجوء والهجرة والأحادية الترامبية.
وأدى هذا الوضع إلى تراجع الفكرة الأوروبية وصعود قوى شعبوية من خارج المؤسسات فى عدة دول منها إيطاليا والنمسا والمجر والتشيك وبولندا، مع ما يعنى ذلك من تهديد لكل المشروع الأوروبى خاصة أن قوى مماثلة من أقصى اليمين والشعبويين تسجل حضورًا أكبر من ألمانيا إلى هولندا وفرنسا وغيرها، وستكون لحظة انتخابات البرلمان الأوروبى فى مايو ٢٠١٩ اختبارًا حقيقيًا يضع الاتحاد الأوروبى على المحك.
ولذا يأتى حراك «السترات الصفراء» فى وقت غير مناسب للمشروع الأوروبى، إذ لا يعنى رفضًا لخطوات ماكرون الإصلاحية فى الداخل فحسب، بل يشكل كذلك تعطيلًا أو إعاقة لاندفاع ماكرون الأوروبى.
وقد بدا المشهد الأوروبى مربكًا فى الأسابيع الأخيرة، وأخذت أوروبا تتحول من الواحة الأكثر استقرارًا فى العالم إلى موجة احتجاج عارم فى فرنسا، وحقبة ميركل التى أخذت تنتهى، وإيطاليا التى تلعب لعبة خطرة مع الاتحاد الأوروبى. بينما تقوم روسيا بمواجهة أوكرانيا، وتخرج بريطانيا من الاتحاد الذى يستنزفه الصعود الشعبوى الرافض له.
وما يثبت المنعطف الحرج للاتحاد الأوروبى مدى تربص دونالد ترامب الذى لم يخف إرادته النيل من الاتحاد الأوروبى فى ظل التنافسية المحمومة لعولمة تتصدّع، أما الرئيس الروسى فلاديمير بوتين فتبيّن نشاطات أنصاره على وسائل التواصل الاجتماعى الرغبة الروسية فى تفتيت الوحدة الأوروبية لصالح شعبويين ووطنيين يسهل على روسيا التعامل معهم.
بالرغم من كل الاستهداف الدولى (بعضه مشروع فى سياق حروب الإرادات والصراعات الاقتصادية) يبقى العاملان الداخلى والأوروبى هما العاملان الأساسيان فى نكسة الاتحاد الأوروبى. وكان من اللافت أن الرئيس إيمانويل ماكرون، الأوروبى الهوى، امتنع عن التطرق إلى مشروعه الأوروبى فى خطاب الـ١٣ دقيقة الموجه إلى الشعب الفرنسى فى الأسبوع الماضى بهدف الرد على التمرد الاحتجاجى، وتفسير ذلك يكمن فى أن إجراءات ماكرون لامتصاص الغضب والتى تكلّف حوالى عشرة مليارات يورو تعنى عدم قدرة باريس على احترام السقف الذى وضعته المفوضية الأوروبية فى بروكسل، حيث لا يسمح بزيادة العجز فى الميزانية الداخلية ٣ بالمئة من الناتج القومى. وأبعد من ذلك يقوض هذا الخرق الفرنسى مشروع الرئيس ماكرون الذى كان يدافع عن فكرة إنشاء ميزانية خاصة لمنطقة اليورو فى سياق مشروعه الأوروبى المترنّح. ومن ناحية أشمل يتوجب بشكل ملح على الاتحاد الأوروبى أن يحاول ولو بشكل جزئى الرد على تناقض مؤذ بين سوق أوروبية داخلية وحدود مفتوحة مع استمرار اقتصاديات وقدرات شرائية متفاوتة ومتنوعة تحت هذا السقف. وكل هذا يقلل من شعبية الفكرة الأوروبية الملازمة للتقشف أو البطالة عند فئات واسعة من دون نكران دورها فى الاستقرار والازدهار فى آن معًا.
اعتقد البعض فى أوروبا باستتباب الأمور ونهاية التاريخ عند نهاية الحرب الباردة وداعبهم الوهم بأن الوحدة الاقتصادية وتوسيع الاتحاد ليصبح أقرب إلى أمم متحدة مصغرة مع بعض البعدين السياسى والعسكرى كفيلان بتحصين القارة العجوز من أنواء التحولات العالمية. ولهذا لم تجد فكرة إيمانويل ماكرون عن «الجيش الأوروبي» التجاوب المطلوب من الشريك الألمانى فى المقام الأول، إذ صدرت أصوات من برلين للمطالبة بتقاسم فرنسا مع الاتحاد الأوروبى مقعدها الدائم فى مجلس الأمن الدولى، وإعادة النظر فى ترتيبات ما بعد الحرب العالمية الثانية. وهكذا فإن خطوة ماكرون من أجل الاستقلالية الاستراتيجية سقطت ليس بسبب إدانة ترامب لها فحسب، بل نظرًا لتأرجح المحور الفرنسى- الألمانى الأساسى فى البناء الأوروبى ولأن الإرادة السياسية غير متوافرة لتحويل أوروبا إلى قطب سياسى وعسكرى يدافع عن تقدمها الاقتصادى ودورها الجيوسياسى.
باختصار، عام ٢٠١٩ يحمل الكثير من العقبات التى تخصم من رصيد القوة الشاملة للاتحاد الأوروبى باعتباره أحد أهم القوى الرئيسية، التى تؤثر على العالم. ولا شك أن السؤال الرئيسى الذى تثيره هذه التطورات، هو محاولة التعرف على حدود التأثيرات المتوقعة لها على عالمنا العربى الذى يمر كذلك بمرحلة حرجة من تاريخه.