الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

قانون تطور الشعوب

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
يُعد كتاب «العلم الجديد» للفيلسوف الإيطالى «جامبا تيستا ﭬـيكو» من أهم الكتب التى تحدثت عن الطبيعة المشتركة للشعوب، وهو – فى جوهره – محاولة لوضع مذهب تاريخى شامخ، لا هو مجرد تصنيف تأريخي، ولا هو مجرد إدراج للمعرفة التاريخية تحت التاريخ الدينى المقدس، وإنما هو صورة لــ «تاريخ» مثالى خالد يسير طبقًا له تواريخ كل الشعوب فى الزمان. ومهمة هذا العلم أن يعرف الشعوب فى أصولها وتقدمها وازدهارها وسقوطها، وأن يتتبع المسار التاريخى من البربرية إلى المدنية؛ والمهم أن ينظر إلى «التاريخ» على أنه «تاريخ» الإنسان و«تاريخ» عقلنا البشرى.
يعرض «ﭬـيكو» فى كتابه الضخم «العلم الجديد» للقانون الذى يحكم تطور الشعوب، فالأمم فى تطورها تتقدم وترتقى من الهمجية إلى المدنية، ثم تنتقل إلى الخضوع للقوانين والحكومات؛ حتى تصل إلى مرحلة التعامل الإنسانى فى حياة اجتماعية منظمة. وكل الشعوب تمر بالتاريخ المثالى الأبدى فى نشأتها وتطورها ونضجها ثم تدهورها وسقوطها. هذه الدورة التاريخية التى تمر بها كل أمة تتعاقب فى مراحل ثلاث، وهذه المراحل هى القانون الذى انتهى إليه «ﭬـيكو» واستقاه من التاريخ المصرى القديم كما أوضحت ذلك الدكتورة عطيات أبوالسعود فى كتابها القَيِم «فلسفة التاريخ عند ﭬـيكو». وقد اعتبر هذا القانون - الذى وضعه المصريون لشرح تاريخ العالم قبلهم - بديهية من بديهيات العقل التى يجب التسليم بها منذ البداية؛ ومجمل هذه المسلمة أن تاريخ البشرية يمر بثلاث مراحل رئيسة هي: «المرحلة الإلهية»، و«المرحلة البطولية»، ثم «المرحلة البشرية».
المرحلة الإلهية تتصف بالتأليه واعتبار كل ما فى العالم ملكًا للآلهة، والحكومة نفسها إلهة لها إرادة آمرة ناهية، وهى تختار من يمثلها على الأرض؛ وقد كان الحكم الاستبدادى فيها بيد الكهنة الذين يمثلون رجال الدين ويدعون أنهم يحكمون بمقتضى قوانين إلهية يتلقونها عن طريق النبوءات والتكهنات. وفى هذا العصر الإلهى سيطرت الخرافة والأساطير على الفكر، وساد الخوف الذى كان الدافع الأول للإنسان لتصوره للآلهة عن طريق المخيلة. وكانت اللغة السائدة - فى هذا العصر - لغة رمزية سرية كــ «اللغة الهيروغليفية»، لغة صامتة خرساء. وتتم بها الطقوس ويطلقون عليها اللغة السرية المقدسة. هذه اللغة الرمزية استعملتها كل الشعوب فى بداية تاريخها، إذ كان الناس يفكرون بمفاهيم عامة أو كليات خيالية أملتها بالفطرة طبيعة العقل البشرى التى تميل إلى كل ما فيه وحدة واضطراد.
أما المرحلة البطولية فهى مرحلة أنصاف الآلهة من البشر الذين يزعمون أنهم ينحدرون من أصل إلهى ليُنظر إليهم نظرة التقديس والتأليه. وقد خطت البشرية - فى هذا العصر البطولى - خطوة إلى الأمام فتحررت من استعباد الآلهة وانتقلت إلى استعباد الإنسان لغيره من بنى جنسه. أما اللغة فكانت لغة شعرية تتغنى بالبطولة والشجاعة التى اتسم بها العصر كله. وتصاحب هذه اللغة الشعرية حروف أو رموز بطولية هى كليات متخيلة ترد إليها الأنواع المختلفة للأشياء البطولية، مثلما نُسب إلى «أخيل»- وهو بطل ونصف إله فى الأساطير اليونانية- كل أفعال الشجاعة، ولــــ «أوديسيوس» - أشهر بطل فى الأساطير اليونانية كتب عنه هوميروس فى الإلياذة والأوديسة- كل حيل البشر فى المهارة والبراعة والمكر. وقد أصبحت هذه الأجناس الخيالية - بعد أن تعلم العقل البشرى كيف يجرد الأشكال والخصائص من الموضوعات - أجناسًا عقلية مهدت الطريق للفلاسفة وللتفكير الفلسفي.
وأخيرًا تأتى المرحلة البشرية فنجد المساواة فى الحقوق أمام القانون وحصول كل إنسان على حقوقه الطبيعية المشروعة فى ظل حكومات ديمقراطية شعبية حققت المساواة بين طبقة النبلاء وطبقة العامة واعترفت بحق هذه الطبقة الأخيرة فى المشاركة فى نظام الحكم، وكانت اللغة - فى هذا العصر الأخير - لغة شعبية غلب عليها النثر؛ أى لغة الحديث المنطوق الذى تستعمله كل الشعوب الآن كما هى لغة الرسائل والحياة اليومية.
وهذه الدورات الثلاث للتاريخ يقابلها ثلاث مراحل تشريعية بدأت بالقوانين الإلهية التى سادت فى عصر الأسر حيث سيطر الاعتقاد بأن الملكية هى ملكية الآلهة. والسلطة البطولية تعتمد على قوانين لها جلالها، وقد ساد هذا فى عصر الأرستقراطيات البطولية التى تجسدت فيها السلطة فى المجالس التشريعية الحاكمة. أما السلطة البشرية فتعتمد على ثقة الشعوب فى أصحاب الخبرة وذوى البصيرة، وقد ساد هذا فى عصر الديمقراطية الشعبية عندما أصبحت سلطة مجلس الشيوخ بمثابة حارس للقوانين، وأصبح الشعب هو الـمُشرع الحقيقى للقوانين، واقتصرت سلطة المجالس على إصدار هذه القوانين وصياغتها فى صورة رسمية.
هذا باختصار قانون تطور الشعوب، ولقد قام «ﭬـيكو» بالتدليل على صدقه فى كل ما يتعلق بحياة الشعوب والطبائع الثلاث التى تسودها وما يتبعها من عادات ثلاث. وبفضل هذه العادات أصبح هناك ثلاثة أنواع مختلفة من القانون الطبيعى للشعوب وما يتبع هذا القانون من تنظيم المراحل المدنية، فكانت الحكومات الثلاث وما يقابلها من لغات ثلاث، وتشكلت ثلاثة أنواع من الرموز؛ كما كانت هناك ثلاثة أنواع من التشريع والسلطة والعقل والأحكام.