الإثنين 29 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

مُجددا في طليعة المحافظين

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
يحسب البعض أن الفكر العربى فى عصر التنوير (١٨٥٠ - ١٩٥٠) لم يلفظ إلا اتجاهين، أحدهما متعصب للقديم، وهو الاتجاه الرجعى، أو إن شئت قل السلفى الذى ينظر إلى كل جديد على أنه خيانة للمشخصات وإفساد للهوية وهدم الثوابت، أما الثانى فيسير على النقيض من ذلك وينتصر إلى الحداثة الغربية كافرًا بالشرق ومعتقداته وعاداته وتقاليده وجمود أفكاره. وانطلاقًا من هذه الرؤية ينظر للغرب على أنه المعلم والقدوة والدرب الذى يجب السير فيه بغض النظر عن الفروق الثقافية واختلافات البنية الاجتماعية التى شكلت العقل الجمعى فى الشرق والغرب. وأعتقد أن الذى يتصور أن هذين الاتجاهين هما اللذان أنتجا الفكر العربى من خلال مساجلاتهما - حول قضايا الواقع والمجتمع والعقل والإيمان والقديم والجديد والأنا والآخر - لم يصب الحقيقة لأن هناك اتجاهًا ثالثًا قد جمع بين محاسن الطرفين هو الاتجاه المحافظ المستنير، وقد ولدت هذا المصطلح من طبيعة الرؤى والتصورات والأفكار التى يمثلها أعلام هذا الاتجاه - وذلك فى معظم مؤلفاتهم - فإن الطرف الأول يحوى عشرات المفكرين الذين يقتربون بأفكارهم من الاتجاه المحافظ الرجعى ولكنهم يمتازون عنهم بالفصل بين الثوابت والمتغيرات، فالثوابت عندهم لا يمكن التفريط فيها لأنها الحامى الأوحد للمشخصات والهوية وسمات العقل الجمعي، أما المتغيرات فهى قابلة دومًا للتطوير والتحديث، أما الطرف الثانى - فأعنى المستنير - فهو أقرب إلى الاتجاه الحداثي، ويبدو ذلك فى إيمانه بالعقل، واحتكامه للتجربة فى الحكم والتقييم، ونقضه لكل أشكال التقليد والجمود والاستبداد. ومن أعلام هذا الاتجاه الفيلسوف المصرى الدكتور زكريا إبراهيم (١٩٢٤ - ١٩٧٦)، فهو أقرب إلى الاتجاه المحافظ فى تمسكه بالمشخصات والهوية، إيمانًا منه بأن التجديد والتحديث من الأهمية التى لا يمكن تصور نهضة أو رقى للمجتمع بدونهما. فالتجديد ينصب على الثوابت لإزالة ما لحق بها من أوهام وضلالات. فيعيدها أصيلة من حيث العراقة وقابليتها للتعايش مع مستجدات الواقع، أما التحديث فيوجهه صوب المناهج والآليات وطرائق التفكير وأساليب التفسير والتأويل والشرح والتحليل. وعلى الرغم من تدينه وانتمائه إلى كنيسته الأرثوذكسية إلا أننا نجده لا يتحدث عن الأغيار فى الدين أو الوجهة الفكرية إلا بأدب جم وموضوعية فى النقد والتحليل، ولا نكاد نرى اثنين يختلفان حول ثرائه الفكرى ونهجه الموضوعى فى معالجة المشكلات التى تصدى إليها ولاسيما قضية القديم والجديد والشباب والشياب، ويبدو ذلك جليًا فى كتابه «نداءات إلى الشباب العربي» الذى كتبه خلال نكبة الأمة العربية، أعنى السنوات الست السوداء التى تجرع فيها الشباب العربى كؤوس الانكسار والهزيمة والإحباط واليأس، وذلك بعد هزيمة ١٩٦٧.. والكتاب يشمل عشرين مقالة كتبها على صفحة مجلات «العربي» و«الجديد» و«التربية» فها هو يناقش قضية العلاقة بين الشباب والشياب من عدة زوايا، فنألفة لا يلقى تبعية الأزمة بين القديم والجديد على كاهل الشباب دون الشياب أو العكس، فهو يؤكد أن كلا الفريقين مسئول عن تلك الأزمة التى جعلت الشباب الثائر يلقى بكل تبعات الانكسار والعثرات على كاهل الشياب الذين لم يحسنوا معالجة قضايا الواقع، وأبوا ألا أن يتناولوها بمنطق أسلافهم بحجة أن تجارب الأجداد لا يمكن الطعن فيها أو مخالفتها، لأن القدماء دومًا هم الأكثر حكمة ودربة ودراية، وتضيف رؤية الشباب أن تلك العقلية الجامدة هى التى ألحقت بالعرب الهزيمة وفشلت فى تفعيل الشعارات التى كانوا يرددونها ويعدون المجتمع بتحقيقها (الديمقراطية، العدالة الاجتماعية،الحرية بكل صورها، والقضاء على أشكال الاستعمار وقلاع الاستبداد، وهدم كل قوى الرجعية والتخلف)، وعلى النقيض من ذلك نجد الشياب يتهمون الشباب بالعقوق والاندفاع والهمجية والثورة غير المسئولة والاندفاع دون حذر نحو الأيديولوجيات والأفكار الغربية التى ما زالت بنيتها فى طور التكوين ولم تأت ثمارها فى المجتمع الذى نشأت فيه، وأن جحود الشباب لهويته العقدية والقومية هو السبب الحقيقى للهزيمة. ويقول زكريا إبراهيم عن ذلك «إن المسألة فى رأينا ليست شبابًا وشيوخًا، أو جديدًا وقديمًا، بل هى فى الواقع مسألة تقدم أو تخلف، صلاح أم فساد، وليس من الحكمة فى شيء أن نتصور إمكان قيام مجتمع ما على (الجديد) وحده أو على (الإبداع) وحده. فإنه لابد لكل مجتمع من جديد وقديم، من إبداع واتباع. بل قد يكون من خطأ الرأى أن نتصور إمكان قيام ثورة لا تستند إلى ركيزة من نظام أو إمكان حدوث تغيير لا يقوم فوق خلفية من الثبات أو الاستقرار «ثم يناقش مفكرنا قضية الشباب والشياب غير أنه لا يعترف بأن طرفيها متناقضان أو ضدان كتب عليهما الصراع فالمعيار الذى يميز أحدهما عن الآخر هو طرائق التفكير، ومن ثم اعتبار المعيار الحاكم بينهما هو تلك الروح الوثابة والعزيمة والرؤية الإبداعية والقدرة الفتية على تحدى الصعوبات، مبينًا أن ما تتوفر فيه هذه القيم والمشاعر يمكن إدراجه ضمن الشباب، وإن كان من الشياب، ومن يتسم عقله بنقيض هذه الصفات فيمكن انضواؤه تحت راية الشياب وإن كان فى ريعان الشباب. «كانت السمة الأساسية التى تميز الشباب، هى تلك الحماسة العارمة التى هيهات لها أن تفتر، وإلا، فهل يستطيع أحد أن ينكر عليك شبابك، إذا كنت تستقبل كل يوم من أيام حياتك بحماس متجدد، منتظرًا الغد بنفس الحماس الذى ودعت به الأمس، إن لم يكن بحماس أكبر، أجل، أنت شباب لأنك تحيا بعمق، وتؤدى دورك فى الحياة بنشاط، وتنظر إلى مستقبلك فى ثقة. أنت شاب لأنك تعلم أن الروح لم تخلق لكى تهزم وتنهار، بل لكى تحقق لنفسها الغلبة والانتصار».... «أنت شاب لأنك تعلم أن فى يدك يكمن سر روحك، إذ إنك أنت وحدك الذى تستطيع أن تعيد إليها حساستها وحيويتها، مهما تقدم بك العمر». ويصرح مفكرنا بمقصده من مخاطبة الشباب مبينًا أنهم دون غيرهم الأجدر على حمل مسئولية الإصلاح ورسالة النهضة التى عجز الشياب عن المضى بها قدمًا، وكيف لا؟ والشباب هو الامتداد الطبيعى لآبائهم وأسلافهم من الشياب، وهم الأمل الذى تتجه إليه الأنظار للدفاع عن الأمة وإعادة بناء الأنا من الداخل بعد تخليصها من أوجاع ومرارة الفشل، ومواطن الجمود والرجعية، والعمل على إنهاض الوطن ثانية من كبوته إيمانًا منه بأن الأمم التى يطويها التاريخ فى جب النسيان هى تلك الأمم العاقرة أو الثكالى التى لم تلد شبابًا يدافعون عنها، أو تلك التى انتحر أبناؤها يأسًا أو قتلهم الجبن أو التهور. «إن الشباب بلا شك هو صانع التاريخ، وداعمة كل تغير اجتماعى مقبل، وإننا نعلق عليه كل الآمال، لأنه يمثل فى نظرنا الإمكانات الكبرى الراقدة فى أحضان هذا المجتمع العربى الكبير، ونحن حين ندعو إلى المزيد من الجهد، والعمل، والإنتاج (إلخ) فإنما نخاطبه باسم تلك القيم العربية التى طالما آمن بها الإنسان العربى فى لحظات مجده، وعظمته، وقوته، وقد لا تكون هذه القيم سوى مجرد فضائل: فإن الشجاعة هى فضيلة البداية أو المبادأة، والوفاء هو فضيلة الاستمرار أو المواصلة، والتضحية هى فضيلة النهاية أو الخاتمة وكل هذه القيم أو الفضائل إنما هى سمات النفس المتفتحة التى تدرك أن الزمان لم يتوقف، وأن الأفق لا يزال، وأن الأمل لا يزال معقودًا».. وللحديث بقية مع آراء زكريا إبراهيم التنويرية.