الثلاثاء 07 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

البوابة القبطية

القمص أنجيلوس جرجس يكتب: لماذا جاء المسيح إلى مصر؟

القمص أنجيلوس جرجس
القمص أنجيلوس جرجس
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
لم تكن مصر مجرد وطنًا يعيش فيه بعض من البشر يطلبون أسباب العيش، ويعيشون على أرضٍ يقضون أيامًا ثم تنتهي بهم الحياة. ولكن كانت مصر دائمًا هي بقعة ضوء وحالة حضارية خاصة، أراد اللـه أن تحمل رسالة هامة للعالم كله.
وحتى في حالات الضعف والخضوع لسيطرة الاحتلال كان الصوت العميق من التاريخ لا يزال يتردد في أصداء المسكونة ويُعلم من الماضي رغم ضعف الحاضر عمق وقوة تجعل من مصر دائمًا المنارة التي لا تنطفئ.
وقد كان الفراعنة ينشئون المعابد وكان يلحق بكل معبد مدرسة ومكتبة ومستشفى ومحكمة ومركز إداري، وكان يدعمون كهنة المعابد بالعطايا والهبات. كما كان المعبد ينظم الاحتفالات والأعياد ويشرف على تعاليم المنطقة المحيطة به. وكانت المكتبة تسمى "بيت اللوح" أو "بيت الختم" وكانت مركز نشاط دراسي وإداري. وحينما زار ثيؤدور الصقلي مصر سنة 56 قبل الميلاد رأى عند زيارته إلى مدينة طيبة نقش على بوابة مكتبة إحدى المعابد مكتوب عليه "دواء الروح". فكانت المكتبات والكتب منتشرة في كل ربوع مصر.
كما يخبرنا التاريخ أنه حينما جاء الإسكندر الأكبر إلى مصر وبنى الإسكندرية كان يريد أن يحقق حلمًا هو التوافق بين الشعوب على أرض تلك المدينة.
وكانت الإسكندرية في عصر البطالمة ذات أجناس متعددة -كوزموبوليتان – فعاش فيها المصريين جنبًا إلى جنب مع المقدونيين واليونان واليهود والعرب والفينيقيين والفرس وعملوا سويًا في هذه الفترة لبناء مدينة حضارية لها صورة متفردة في العالم كله.
وحينما وجدوا أن المكتبات ملحقة بالمعابد في مصر بنوا معبد ضخم للإله سيرابيس الذي تكلمنا عنه سابقًا وألحقوا به مكتبة كبيرة هي مكتبة الإسكندرية. وأراد البطالمة أن يجعلوها أعظم مكتبة في العالم فكلفوا أحد كهنة الفراعنة وهو "مانيتون" بترجمة ما في المكتبات الفرعونية وعمل نسخة يونانية لها. ولأن الإسكندرية كان بها جالية يهودية كبيرة فاستقدم بطليموس سبعين شيخًا من حكماء إسرائيل ليترجموا التوراة والعهد القديم إلى اليونانية.
هذا بجانب تجميع كل ما كُتب من فلسفات وثقافة يونانية حتى أن كل المؤرخون أجمعوا على أن الفلسفة الهيلينية وهي فلسفة أفلاطون وسقراط وأرسطو قد انتهت في اليونان في القرن الرابع قبل الميلاد ولكنها أعيد انتشارها وأحيائها في الإسكندرية. بالرغم من أن الكثير من المؤرخين يقولون إن تلك الفلسفات قد تأثرت بالفكر المصري القديم وأنهم تعلموا واستقوا العلم على أيد المصريين.
وحينما احتل الرومان مصر اتخذوا من الإسكندرية عاصمة لهم التي كانت مختلطة الأفكار والثقافات، ففيها الفكر الهيليني الثقافي اليوناني تنشره مكتبة الإسكندرية التي كانت في معبد السيرابيون، بجانب الفكر المصري القديم، بجانب الفكر والديانة اليهودية التي كانت لها نشاط كبير في الإسكندرية، وكانوا دائمي الثورة والمطالبة بامتيازات خاصة وأحيانًا كانت تحدث صدامات دموية بينهم وبين الإغريق والمصريون السكندريون حتى حدثت مذابح عامة في الشوارع نتيجة هذا التطاحن عام 38 ق.م.. كما حدث صدام أخر وقت الإمبراطور كاليجولا الذي اصطدم معهم لأنهم رفضوا أن يؤمنوا بألوهيته.
وانتشر في الإسكندرية أيضًا جماعة يهودية بنوا مستعمرة على بحيرة مريوط سموا أنفسهم جماعة السيرابيوتي (20 ق.م.) وهي تعني الأطباء وكانوا يعيشون في حالة نسك شديد يتنازلون عن ممتلكاتهم لأقربائهم، ويعيشوا حياة مشتركة، لا يتناولون الطعام قبل الغروب، ويقضون أوقاتهم في العمل والصلاة والتأمل في التوراة والكتب المقدسة ولكنهم كانوا يتزوجون.
وإذا تركنا الإسكندرية بهديرها الثقافي وصراعها العرقي وننتقل إلى باقي ربوع مصر نجد أن البطالمة قد نشروا معابد في كل ربوع مصر لألهتهم ولكنهم لم يقضوا على الفكر المصري القديم بل استمروا في دعم المعابد والكهنة. ولكن طيلة فترة البطالمة اضمحل التعليم والفكر اللاهوتي المصري ودخل إلى الثقافة المصرية الفكر اليوناني نتيجة انتشار اللغة اليونانية مما أدى إلى سطحية الفكر الديني ودخول آلهة اليونان في مفردات العبادة المصرية القديمة.
ومع بداية حكم الرومان اختلف الحال كاملًا فقد نشر الرومان آلهتهم الوثنية فقد قام الإمبراطور أغسطس بمصادرة أملاك المعابد وإلحاقها بملكية الدولة وحرموا الكهنة والمعابد من الدعم المالي فأغلقت المعابد الفرعونية وانتهت الكتابة المقدسة والأناشيد وتم تشريد الكهنة المعلمين نتيجة فرض ضرائب باهظة، بل وفُرض في المحافل والأعياد الاجتماعية تقديم القرابين للآلهة الرومانية فانتشرت العبادة الوثنية. وأصبح المصري القديم في هذه الفترة يحمل تراثًا حضاريًا ممثلًا فيما هو موروث من فكر وتقليد وأعياد كانت لا تزال في الأسرة المصرية وفي نفس الوقت ما يفرضه الرومان من معابد وآلهة وصور كانت غريبة على المجتمع المصري، فلم يحترم الرومان الحضارة المصرية والفكر المصري كما احترمه البطالمة.
ففي تلك الفترة دخلت مصر العائلة المقدسة تحقيقًا للنبوة التي قالها إشعياء النبي قبل مجيء المسيح بسبعمائة وخمسون سنة، ففي الإصحاح التاسع عشر تقول النبوة إنه قادم إلى مصر فترتجف أوثان مصر.
ونفهم من هذه الصورة أن الأوثان التي ارتجفت هي معابد الرومان، وحينما كان يذهب المسيح في أي مكان كانت تسقط تلك الأوثان، ولهذا السبب أيضًا لم يذهب إلى الإسكندرية التي كانت بها حضارة ومعابد وثنية خالصة.
كما تقول النبوة في ذلك اليوم يكون مذبح للرب في وسط مصر، وهو المكان الذي سكن فيه السيد المسيح أكبر مدة في زيارته إلى مصر وهو الآن دير المحرق. فلابد أن نفهم أنه في فكر العهد القديم لم يسمح الرب ببناء مذبح للعبادة اليهودية خارج أورشليم، لنفهم أن لمصر صفة خاصة ولها تدبير خاص عند الرب، وكانت هذه من أهم الأسباب التي جعلت السيد المسيح يأتي إلى مصر خصيصًا. فقد كانت قصة الهروب من وجه هيرودس الذي أراد أن يقتله يمكن أن تحل بطريقة معجزيه فالسيد المسيح الذي أقام من الأموات وصنع المعجزات يمكنه ألا يجعل عائلته تحمل مشقة رحلة الهروب ويصنع معجزة توقف شر هيرودس. وقد كان يمكنه أيضًا أن يذهب إلى بلد أقرب فبعبوره البحر المتوسط يكون في مأمن فيذهب إلى إحدى بلاد أوروبا أو إلى أي بلد مجاور، ولكنه جاء إلى مصر قاصدًا متعمدًا لكي يواجه أوثان مصر كما تقول النبوة.
ولكي يضع قدمه على أرض بلادنا ليخبر العالم أن العمق والحضارة الروحية التي كانت تشع من هذه البقعة في العالم ستظل قائمة بقوة روحية أعظم لن يستطع العالم بقوته أن يفرض الوثنية في مصر وأن تضيع روحانية مصر.
فقد أراد المسيح أن يأتي إلى مصر لتسقط أوثانها وليؤسس مذبحًا فيها، ولتستمر مصر بلدًا يحمل عبقًا روحيًا وإشعاعا لا يضمحل.