الثلاثاء 16 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

نقد الإيديولوجيا

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
تفرعت الماركسية - نتيجة الوضع العام للطبقة العاملة وثورة ألمانيا عام 1919 - إلى عدد غير قليل من التيارات التى كان شغلها الشاغل الإجابة عن سؤال، ظل مطروحًا وهو: كيف نميز بين نظرية علمية عن الواقع وبين «الإيديولوجيا»؟ حاول بعض الماركسيين الوضعيين تقديم «الماركسية» على أساس أنها نظرية علمية موضوعية، وذلك من خلال تخلى «ماركس» عن مقولة الصراع الطبقي؛ فالنظرية العلمية هى النظرية القادرة على استقطاب قطاع كبير من البشر، فلا يوجد علم «بوليتاري» أو علم «بورجوازي»، وإذا أرادت الماركسية أن تصبح علمًا؛ فإن عليها ألا تقدم نفسها بوصفها نظرية خاصة بطبقة معينة. وهناك تيار ثان رأى أن الحزب المكون من المثقفين الثوريين هو الضامن الوحيد لمصداقية النظرية وتحقيقها، وهو ما أصبح يعرف باسم «الأحزاب الشيوعية».
غير أن التيار الثالث - الذى نشأ فى معهد البحث الاجتماعى - تشكل من المفكرين الذين أعادوا قراءة «الماركسية» بتطبيق المنهج الماركسى على «الماركسية» نفسها؛ منطلقين من مواقف «ماركس» النقدية، محاولين إيضاح العلاقة بين «البنية التحتية» و«البنية الفوقية»، بقصد الوصول إلى مواقف أكثر شمولية، وباتجاه تعمق مفهوم الممارسة العملية - أى الممارسة الفعلية فى الواقع الاجتماعي. لقد قامت ماركسيتهم المبدئية على نقد العلاقات المسببة لاغتراب الإنسان فى المجتمعات الرأسمالية والصناعية القائمة على الشمولية والعقلانية التقنية، والإدارية التى ادعت التقدمية والاستنارة؛ وتباهت بالسيطرة على الطبيعة الإنسانية فى الشرق الشيوعى والغرب الرأسمالى على السواء.
ولم يكن المصدر الأساسى لهذا النقد هو «النظرية الماركسية» فى مجموعها ولا الارتباط بالطبقة العاملة، بقدر ما كان - فى معظم الأحوال - هو التأثر بتجربة «ماركس» الشاب الذى اكتشفوه مع اكتشاف «مخطوطاته الاقتصادية والفلسفية» لعام 1844، بحيث وجدوا فى آرائه تأكيدًا لاغتراب الإنسان عن ماهيته الحقيقية، واغترابهم كيهود مضطهدين من تلك المجتمعات. لقد أدركوا أن الرأسمالية كارثة تحيق بالإنسان وتحول دون تحقيق آماله فى حياة حرة ومبدعة وسعيدة، وعرفوا أن نقدهم لها ينبغى ألا يقتصر على الإصلاح الاقتصادى والسياسي؛ بل يستوجب الثورة الشاملة على مفهوم العقلانية التقنية والاستنارة المزعومة التى تقف حجر عثرة أمام كل حياة إنسانية أصيلة.
لذلك دعا مفكرو «النظرية النقدية» إلى نقد السلطة فى الدولة الحديثة ومؤسساتها الدكتاتورية، ونقد المفهوم البورجوازى للحرية؛ ونقد الفاشية، والكشف عن آليات السيطرة الثقافية من خلال «نقد الإيديولوجيا»، أى نقد الوضع الراهن والرغبة فى تجاوز هذا الوضع، واليأس الناتج عن عالم الاستغلال. كل هذا شَكّل الهدف الأساسى لمدرسة فرانكفورت، وعلى رأسهم المفكر اليسارى «هوركهايمر»، الذى أطلق على النظرية الماركسية اسم «النظرية اللا - إيديولوجية»، أى النظرية القادرة على إصدار أحكام عن الواقع، وعن نقد الإيديولوجيات المسيطرة؛ كذلك عن نقد كل أشكال الوعى الزائف. وكان الهدف الأساسى - من هذا الوصف - هو تأكيده على الحاجة إلى قراءة «ماركس» وتفكيك مقولاته، وبيان صلتها بالعلاقات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية فى القرن العشرين. لذلك انطلق «هوركهايمر»، فى نقده لـ «الإيديولوجيا»، من مقولات «ماركس - لا سيما نقده للاقتصاد السياسى - لكنه لم يقبل أن يقتصر مفهوم «الإيديولوجيا» - بوصفه وعيًا زائفًا - على البعدين الاجتماعى والتاريخي، مؤكدًا إبراز العامل النفسى الاجتماعى عند تحليل العلاقات الاجتماعية التى تنتج «الإيديولوجيا».
لذلك رأى أن النظرية الماركسية نظرية لفهم الدينامية الجوهرية للمجتمعات، لكنها لم تعد كافيـة لتقديم صورة واضحة لتغيير الواقع المعاش، ذلك الواقع الذى جاء لينفى مقولة «ماركس» و«إنجلز» - ومن تبعهما - والقائلة إن طبقة البروليتاريا هى المُخَلّص والمنقذ للبشرية. لقد تبين لـ «هوركهايمر» عجز هذه الطبقة عن إحداث التغيير الاجتماعى الجذرى بخاصةٍ حيال زحف البربرية النازية التى اكتسحت المجتمع الألمانى وقبضت على زمام السلطة. ولم تأت هذه البربرية - فى رأيه - من أعداء الحضارة والإنسانية، ولا من قوى خارجية؛ بل جاءت من العقل نفسه.
ومن هنا، لم تكن النزعة الشمولية والتسلطية - فى النظم المختلفة - وليدة اتجاهات لا عقلية، وإنما نشأت عن عقلانية «عصر التنوير» (الضاربة بجذورها فى العصر الأسطورى وفى منطق أرسطو) هذه العقلانية التى فتتت الطبيعة إلى موضوعات وذرات منفصلة لتحكم سيطرتها عليها، وتحكمت فى عالم الفرد وأخضعته لمقاييسها الكمية. يقول «هوركهايمر» فى كتابه: «بدايات فلسفة التاريخ البورجوازية»: «ينبغى على العقلانية - لكى تدرك العلاقة بين «العقل» و«الإيديولوجيا» - أن تمتلك حسًا نقديًا ذاتيًا، يطرح وجهة نظره الخاصة على بساط البحث».
لذلك وجه «هوركهايمر» نقده للتنوير و«العقل الأداتي»، وركز كل جهده على نقد الثقافة السائدة بكل عناصرها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والفنية أيضًا، وبيَّن - من خلال هذا النقد - دور المفكر الناقد فى معرفة المنابع الاجتماعية لمفهوم «الإيديولوجيا» كوعى زائف، موضحًا - فى ذلك - أهمية علم النفس فى فحص محتوى الوعى انطلاقًا من الشروط المادية والتاريخية. لكن لم يتجاوز «هوركهايمر» - فى مشروعه الثورى - حدود النظرية إلى العمل والممارسة الجماعية، فتحول مشروعه إلى نوع من «اليوتوبيا» تكتفى بتوعية الناس بأن العالم لم يتغير بعد، وفى الاحتجاج على الأوضاع القائمة وتمزيق أقنعة اللا عقل.