الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

العلم والأيديولوجيا (3)

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
التمييز بين الأنصار والخصوم، بين الأصدقاء والأعداء، أى تمجيد الذات وإضفاء صبغة مثالية عليها، وفى الوقت نفسه الحط من قيمة الآخر وإضفاء صبغة شيطانية عليه. هذه الآلية الثنائية، التى تنسب الخير كله والفضل كله للذات، والشر كله والسوء كله للغير، هى آلية دارجة فى كل الأيديولوجيات، إن لم تكن هى العمود الفقرى للتفكير الأيديولوجي. وسواء تعلق الأمر بأيديولوجيات ذات صبغة دينية أو أيديولوجيات علمانية. وليس ببعيد وصف الرئيس الأمريكى «جورج بوش» الابن لكل من لا يقف مع الولايات المتحدة الأمريكية فى خندق واحد بأنه يمثل «محور الشر»، وفى المقابل - إذا نسينا فلن ننسى - كيف وصف الإمام «الخوميني» أمريكا بأنها «الشيطان الأكبر». 
والأيديولوجية بهذا المعنى (أى بوصفها إطارًا عقائديًا يتضمن برنامج عمل) هى الفكرة التى رفضها الليبراليون؛ وهو المعنى الذى جعلهم يستخدمون الكلمة للازدراء والتحقير، ولكن يجب أن نعترف بأن هناك حاجة فعلية للأيديولوجية، بمعنى «المشاركة فى أُطُر عقائدية تعطى حياتنا معنى وهدفًا، وتجعلنا نحس بالانتماء إلى ثقافة معينة». ومن المنطقى أن أى عمل أو هدف أو تصور سياسى إنما ينبع من هذا الإطار العقائدي، ويكتسب قوته وفاعليته من خلاله. 
ومن المفيد فى هذا السياق أن نُذكِّر أنفسنا فى البداية ببعض الملامح الواضحة، التى قد تبدو بديهية للبعض، والتى تميز بعض المواقف الأيديولوجية المُعلَنة، مثل «الكاثوليكية» أو «الماركسية» أو «الليبرالية - الديمقراطية». إن هذه الأيديولوجيات تحاول جميعها - بدرجات متفاوتة من القهر - فرض نفسها على العالم؛ فهى أيديولوجيات متصارعة. هذا من جانب، ومن جانب آخر فقد تعمل العقائد الأيديولوجية من أجل تثبيت أوضاع غير مقبولة (كأن تسبغ الشرعية مثلًا اعتمادًا على قهر مجموعة لمجموعة أخرى)، أو قد يعتنقها بعض الناس بدوافع سيئة أو غير مُعلَنة؛ أى أن العقائد الأيديولوجية يمكن أن تنشأ بطريقة خاطئة. فمثلًا قد أعتنق آراء تنبع من الطبقة التى أنتمى إليها وتعبر عن مصالحها، وعلى هذا تكون هذه الآراء خاطئة؛ لأنها لم تأخذ فى الحسبان مصالح الآخرين. وفى هذه الحالة تصبح المشكلة هى طبيعة هذه الآراء غير المرغوب فيها، وعدم صلاحيتها إذا نُوقِشَت من وجهة نظر أخرى، بدلًا من الظروف المسبِّبة التى دفعتنى إلى اعتناقها. 
وفى ستينيات القرن العشرين ظهر المفكر الماركسى الفرنسى «ألتوسير» الذى يُعَـد ممثلًا للاتجاه البنائى فى الفكر الماركسي، وهو يرى أن الأيديولوجيا لا تعبر عن العلاقة بين الناس وظروف وجودهم، ولكنها تعبر عن الطريقة التى يعيشون بها العلاقة بينهم وبين ظروف وجودهم، وبالتالى لا يشترط أن يكون التعبير صحيحًا أو زائفًا أو مشوهًا، ولكنه خليط من كل ذلك، وأن لها وجودًا ماديًا يتجسّد فى مؤسسات وأجهزة؛ أسماها أجهزة الدولة الأيديولوجية. 
فليست الأيديولوجية معرفة خاطئة لأنها، قبل كل شىء، هى ليست معرفة، ولأن وظيفتها العملية تفوق أهمية وظيفتها النظرية. ثم إن العلم لا يعدو أن يكون ممارسة نظرية فى حين أن الأيديولوجية تشكل مستوى من مستويات كل تركيبة اجتماعية. ولهذا فليس فى وسع العلم أن يقضى عليها. إن التمثل الأيديولوجى يخالف تمام الاختلاف التصور العلمي، فالتمثل الأيديولوجى يسعى إلى ملء الفراغ وتوحيد المتباين، بينما يسعى العلم إلى معرفة الواقع الفعلي.
ليس معنى هذا أن العلم ترجمة للواقع ونسخة طبق الأصل منه، كما يرى أصحاب المذهب الوضعي، فلم يعد العلم مجرد تقرير لحقيقة عارية متجلية نصادفها أو نكشف عنها. بل إنه إنتاج للمعارف، إنتاج تحدده عناصر معقدة منها النظريات والتصورات والمناهج والعلاقات الداخلية المتعددة التى تربط مختلف هذه العناصر. فالعلم هو الممارسة النظرية المنتجة للمعارف، ووسيلة تحقيق ذلك التصورات والمفاهيم. إن النموذج الذى يبنيه العلم؛ يكون مطابقًا لواقع مختبىء خلف الواقع الظاهر. فالمعرفة العلمية تتم عن طريق إنتاج موضوع يتميز عن المعطى المباشر، والعلم يخاصم الواقع الطبيعى ليُنشىء واقعًا علميًا، أو كما يقول باشلار «العلم يقاطع الطبيعة لكى يُشَيَّد تقنية». 
إن العلم نقيض الأيديولوجيا وأن المعرفة البشرية تبدأ بالأيديولوجيا، ويتعين تخليصها منها، وإحلال العلم محل الأيديولوجيا. الأيديولوجية لا تقدم نفسها كأيديولوجية، والعلم لا يستطيع أن يكشف عن ماضيه كماض أيديولوجي، بل إنه يعجز عن التخلص من ذلك الماضى ما دامت الأيديولوجية تصاحبه. لذا كان لابد من تدخل طرف ثالث يفض الاشتباك بين العلم والأيديولوجيا، ويخلص العلم من براثن الأيديولوجيا، ذلك الطرف هو الممارسة الفلسفية. إن جوهر «الفلسفة» ووظيفتها الأساسية هى «النقد». فكأن المصارع الحقيقى للأيديولوجية ليس هو العلم، وكأن خصمها النظرى الأساسى هو «الفلسفة»، من حيث إن الفلسفة تتدخل كفكر يستعمل الكشوف العلمية ليحارب الأوهام الأيديولوجية. فعندما تكوَّن خلال القرنين السابع والثامن عشر علوم للفلك وللفيزياء الرياضية، ظهرت فى ذاك الوقت ذاته أيديولوجية علمية تحلم بطبيعة تخضع خضوعًا مطلقًا للقوانين الرياضية، طبيعة تعطينا الرياضيات عنها صورة كاملة، وتخضع لمبدأ رياضى هندسى ميكانيكى عند ديكارت، وجبرى حسابى عند ليبنتس. ولكن تلك الفيزياء كانت، فى الوقت ذاته، فى حالة قطيعة مع الإشكالية الأيديولوجية الأرسطية، فكانت الحاجة ماسة إلى تدخل فلسفى يفضح المفاهيم الأرسطية ويكشف بُعدها الأيديولوجي. ذلك كان هو التدخل الذى قام به «ديكارت». كان على «ديكارت» أن يقدم مفهومًا جديدًا للطبيعة، وأن يمد العلم بما يحتاج إليه من تصورات جديدة. كان عليه أن يقوض صرح المفهوم الذى خلفته القرون الوسطى عن الطبيعة، ذلك المفهوم الذى كان ينظر إلى الطبيعة بوصفها كلًا منتظمًا ومتسقًا يجسد انتظام القيم واتساقها.