الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

فاكرني هندي!

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
قرأت حكاية طريفة على الإنترنت، عن شاب مصرى مقيم بالرياض، متزوج ولديه 3 أطفال، يعمل محاسبًا فى إحدى الشركات براتب 4000 ريال، بالكاد تكفى مصاريف البيت، بعد أن يرسل لوالدته المصروف الشهرى ومساعدة بعض الأخوات.. يقول هذا الشاب: تعرفت على هندى (مكوجى) عن طريق بعض الأصدقاء، وأصبحت زبونا دائما منذ ما يقرب العامين، حيث يأتى الهندى بدراجته الهوائية كل مساء خميس إلى بيتى ويقوم بكوى ملابس البيت، وفى آخر الشهر يستلم هذا الهندى مبلغ 100 ريال من كل بيت يكوى له، ومن أول يوم أعجبت بشخصية هذا الهندى، فهو وسيم وأنيق فى لبسه، قليل الكلام وإذا تكلم تشعر بأن حديثه يخرج من عقله قبل لسانه، لغته الإنجليزية تكاد تكون اللغة الأم، يتحدثها بطلاقة وكأنه يحمل لسانًا أوروبيًا، وفى يوم من أيام الخميس جلست معه فى الغرفة التى يكوى فيها، وأخذت أتجاذب معه أطراف الحديث، فقلت له: هل لديك عمل آخر غير هذا، شركة مثلا؟ فقال لى: أنا طبيب إخصائى أطفال!
طبيب؟ إخصائى ماذا؟ صدقونى كأننى فى حلم.. هذا الهندى يكوى ملابس أسرتى منذ عامين وأنا لا أعلم أن فى بيتنا طبيب إخصائى أطفال، ظللت لعدة دقائق أنظر إليه فى بلاهة، غير مصدقًا لما قال.
خرج بعد أن أنهى عمله، وفى الخميس التالى أحضر معه شهادات الطب بمرتبة الشرف والتخصص، وقال لى إنه يعمل فى واحد من أكبر المستشفيات بمدينة الرياض إخصائى أطفال، راتبه أضعاف راتبى فهو يتقاضى 14 ألف ريال، كان من المفترض والواجب على أنا أن أكوى الملابس وأغسل السيارات فى الشوارع والطرقات!
هؤلاء هم الهنود، الغربة لديهم عبارة عن هدف، يعملون من أجله لا من أجل البقاء للأبد.
قال لى الهندى إخصائى الأطفال (المكوجى) أنه أتى للسعودية لقضاء ثلاثة أعوام لا غير ثم العودة إلى موطنه الهند فهو قد خطط جيدا، وأخبرنى بأنه أنهى تشييد منزله بمساحة 1000م فيلا فاخرة، وأرانى إياها على الصور، شىء خرافى، والآن هو يؤسس عيادته الكبيرة وقد اشترى الكثير من الأجهزة الطبية.
والآن وأنا أكتب لكم هذه القصة والهندى إخصائى الأطفال موجود ببلدته وسط أهله وعائلته يمارس عمله ويسكن فى قصره ولديه سيارة فارهة، وأنا الذى قضيت 15 عامًا بالغربة لا زلت أستدين من الأصدقاء وأستجدى صاحب الشركة الذى أعمل معه حتى يكرمنى بتذاكر الطيران لأقضى إجازتى القصيرة بين أهلى ووالدتى وإخوانى محملا بالهدايا والأقمشة والعطور ثم أعود مرة أخرى صفر اليدين لأستدين حتى أغطى الإيجار ورسوم المدارس وحق (المكوجى)!
إلى هنا انتهت حكاية الشاب التى رواها بضحك يشبه البكاء، وهو يتحسر على حاله، فهى تبرهن على الفرق بين الإنسان حين يكون لديه هدف ويسعى إليه بتخطيطه ويعمل بجد من أجله، ومن يعيش وهو ينظر تحت قدميه، دون إدراك لقدراته وإمكانياته.. ودون حلم كبير يسعى لتحقيقه، وكيف أن الكثيرين لدينا رغم ظروفهم وإمكانياتهم المحدودة يتكاسلون حتى فى تقديم الخدمة لأنفسهم حتى يوفروا ما يساعدهم على ضيق المعيشة، وهو ما يختلف جذريا عن الكثيرين فى الدول الأخرى، فمنذ طفولتى أسافر إلى العديد من الدول الأوروبية، وكنت أتعجب من عدم وجود بعض الوظائف الموجودة لدينا بكثرة، مثل البواب ومنادى السيارات فضلا عن من يتسولون بتلميع السيارات أو ببيع المناديل وخلافه.
ولفت انتباهى أن كل من عرفتهم أو صادقتهم من أبناء هذه الدول يخدمون أنفسهم بأنفسهم -رغم أنهم جميعا من طبقات راقية- فهم ينظفون منازلهم بأيديهم ويلمعون سياراتهم ويهتمون بالزرع بأنفسهم، وفى العديد من الأماكن لا يوجد عامل البنزينة، بل يتم تقديم الخدمة أتوماتيكيا، ويعتمد كل شخص على نفسه فى تموين سيارته.. والملاحظ فى هذه الدول أيضا أن الفوارق تكاد تكون معدومة فى الشكل والملبس بين الطبقات، فالجميع يستخدم وسائل النقل العامة، وإذا ركبت الأتوبيس أو المترو، لا يمكنك التمييز بين أصحاب المهن الراقية كالقاضى والطبيب، وبين أصحاب المهن التى نتعامل معها بدونية كالسباك أو الزبال!! فبعد انقضاء ساعات العمل يخلع كل مواطن ملابس العمل وبعدها يصعب التفرقة فيما بينهم. فكل مواطن يشغل وظيفته طبقا لقدراته، ولا يتعامل باحتقار مع غيره من أصحاب المهن الأخرى، والجميع يعامل بنفس الشكل دون تمييز، والقانون يطبق على رقبة الجميع دون تمييز، فلا استثناءات بالواسطة أو الرشوة، ولا استثناء لبعض الفئات فى تطبيق قواعد المرور!!.. لذلك يشعر الجميع بالمساواة فى الحقوق وبالتالى لا يقصروا فى أداء الواجبات. لذلك إذا أردنا أن نحقق ما وصلوا إليه، علينا أن نبدأ بأنفسنا.. فكما قال الله تعالى: «إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ».