السبت 20 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

الاغتراب الديني

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
د. أمل مبروك
إن جوهر فلسفة «ماركس» يتمثل فى فكرة اغتراب الإنسان، وهى فكرة أخذها عن «فيورباخ»، الذى أخذها بدوره عن هيجل وكانت هذه الفكرة مقولة رئيسة فى نظرية «فيورباخ» فى الدين، فليس الله – فى رأيه – هو الذى خلق الإنسان؛ وإنما الإنسان هو الذى خلق الله، وذلك بأن أسقط وخلع أفضل ما فيه من صفات – خارج ذاته – وتخيله موجودًا آخر أطلق عليه اسم الله. وقال: «إن عبودية الإنسان تكمن فى أنه خلع أفضل ما فيه من صفات وأسقطها على موضوع أو روح غريبة عنه أطلق عليها اسم الألوهية».
وذهب إلى أن الإنسان قد عاش فى التاريخ حياة دينية، وأن ماهية الدين (أو جوهر المسيحية التى اتخذها نموذجًا لكل دين) ما هى إلا اغتراب الإنسان؛ بمعنى أن الإنسان المغترب أو المستلب فى الدين يتمزق وعيه أو ضميره. ولذلك رأى «فيورباخ» أن قهر الاستلاب والقضاء عليه لا يكون إلا بنقد الفلسفة للدين، عن طريق استئصال العناصر الأسطورية التى تكمن فى الأديان؛ وعن طريق تحقيق الإنسان بوصفه كلًا عينيًا واقعيًا. لكن «ماركس» تجاوز «فيورباخ» – وذهب إلى أبعد منه – ورأى أن الاغتراب الدينى ما هو إلا تعبير عن اغتراب عينى واقعي، ويقوم فى ميدان الحياة الاقتصادية للإنسان. وقد رأى أن الاغتراب الديني– بما هو كذلك – لا يكون إلا فى نطاق الوعي، أى فى باطن الإنسان. أما الاغتراب الاقتصادى فهو استلاب الحياة الواقعية.
وإذا كان أساس الاغتراب الدينى يقوم فى المجال الاقتصادي، فعندئذ لن يكون الدين هو الصورة الوحيدة للاغتراب الروحي؛ ولن تكون الفلسفة هى الوسيلة للقضاء على الاغتراب الديني، كما ظن «فيورباخ»، بل تصبح مظهرًا أو صورة أخرى تنضم إلى جانب الدين والفن والسياسة بوصفها مظاهر تعكس الاغتراب الأساسى – الذى هو أصلها – وهو الاغتراب الاقتصادي. بمعنى أن الأخلاق والدين والميتافيزيقا وباقى مظاهر «الأيديولوجيا» وأشكال الوعى المناظرة لها، تفقد كل مظهر من مظاهر الاستقلال الذاتي؛ فهى لا تملك تاريخًا، وليس لها أى تطور.
والواقع أن الاغتراب «الأيديولوجي» قد انصب على الدين أكثر من أى نشاط روحى آخر (مثل الميتافيزيقا والفن) والسبب أن الدين هو النزوع الأشد غورًا فى النفس البشرية، والأشد فاعلية وتحريكًا للمجتمع، فهو يتمتع بدينامية اجتماعية تفوق دينامية الأفكار الأخرى التى تؤلف الاغتراب الأساسى للإنسان. فالدين لا يحيا فى السماء بل على الأرض، إنه وعى الإنسان الذى لم يجد بعد ذاته، أو الذى فقدها، الدين ليس سوى يوتوبيا (Utopia) مجردة مصنوعة من مادة الوهم، وهى لا يمكن أن تتحقق إلا بصورة الاغتراب، فوجودها الواقعى وجود مستلب بطبيعته».
لم تتشكل نظرة «ماركس» عن الدين – بشكل نهائى – قبل أن تكتّْمل نظريته فى «الأيديولوجيا» (بوصفها نظرية اجتماعية تاريخية لتحرير الطبقات المُضْطَهَدة). وقد تضمنت – نظريته – تحليلًا للدين بوصفه أحد الأشكال المتعددة لـ«الأيديولوجيـا» المرتبطة بالواقع المادى والفكرى السائد. وقد ربط «ماركس» الظاهرة الدينية بالصراع الطبقى من خلال معاينته للحركات والثورات الاجتماعية والاحتجاجات التى حدثت فى أوروبا عقب انهيار الطبقة الإقطاعية وصعود الطبقة البورجوازية إلى السلطة، التى سيطرت على رؤوس الأموال؛ وامتلكت الأراضى ووسائل الإنتاج، واتخذت من الدين سلاحًا تستعين به فى تخدير عقول الناس – أو الطبقة الخاضعة. وفى هذا الصدد قال «ماركس»: «الدين هو تعبير عن التعاسة الحقيقية، هو عبارة عن أنين كائن يائس، وعاطفة عالم بلا قلب؛ كما أنه بمثابة روح للظروف الاجتماعية التى استبعدت منها الروح. إنه أفيون الشعوب. إذن، فنقد الدين هو الخطوة الأولى لنقد هذا الوادى الغارق فى الدموع».
اهتم «ماركس» بتحليل الدور الذى لعبته الديانة المسيحية – فى أوروبا – والقوى الاجتماعية التى استندت إليها. فقد كانت فترات تاريخية، بخاصةٍ فترات «المسيحية الأولى»، تحول فيها الإيمان إلى نضال، فكان الدين دعامة أساسية للاحتجاج والرفض. لكن الطبقة البورجوازية التى امتلكت سلطة المعرفة والأمر والنهى، وعملت على إبقاء الفوارق الطبقية فى المجتمع؛ دعت إلى خداع الكادحين بجرعات الأمل الكاذب واليأس من الوصول إلى السعادة فى هذا العالم، وذلك يجذبهم إلى عالم من صنع الوهم والخيال، وهو عالم الدين. وعلى حد قوله: «النضال ضد الدين هو النضال – بشكل غير مباشر – ضد هذا العالم الذى يعتبر الدين عبيره الروحي».
لذلك فالعقيدة الدينية – لاسيما المسيحية – تصرف أنظار الطبقة الكادحة عن واقع الاستغلال والقهر، لأنها تعدها بخلاص فى الآخرة إن صبرت على بلائها ورضيت بظلمها، لذلك رأى «ماركس» أن الديانة «اليهودية» أفضل حالًا من «المسيحية» لأن الأساس الدينى للإنسان متحقق فيها بطريقة دنيوية، وهذا يتضح فى فكرة الخلاص المنصوص عليها فى التوراة؛ والتى لها بعد دنيوى تاريخى متمثل فى تحرير الشعب المختار.
ويمكن القول، إن الثنائية بين الدين والأيديولوجيا – منذ اللحظة الأولى – تنتفي، بمعنى ألا يبقى الدين نصا متعاليا على الزمن أو خارجه؛ ولا الأيديولوجيا تظل مجرد تصورات فى الذهن أو كلمات لا معنى لها. ويتخذ الدين – لنفسه – لونًا أيديولوجيًا، ويتحد بظروف الزمان والمكان؛ وفى هذه الحال يندمج مع الأيديولوجيا تحت ما يسمى «أيديولوجيا دينية» أو «تدين أيديولوجي». والإنسان هو الذى يخلع على الدين بعده الأيديولوجي، لأنه يمارس تدينه فى إطار سياسى واجتماعى وثقافى؛ وهنا ينتقل الدين من كونه دينًا ساكنًا (فى النص المقدس) إلى إطار أيديولوجى متحرك فى الزمن البشرى. لذلك اهتم «ماركس» بتحليل الدين بوصفه أحد الأشكال الأيديولوجية، التى تعبر عن الإنتاج الروحى للشعوب.
وعبارة «الدين أفيون الشعوب» الشهيرة والتى تُعد خلاصة المفهوم الماركسى عن الظاهرة الدينية، ليست ماركسية بشكل خالص؛ فالعبارة ذاتها وردت فى سياقات مختلفة. فقد استخدمها كل من: «هاينريش هاين» Heinrich Heine (1797 – 1856) - وهو من أهم شعراء ألمانيا الرومانسيين - و«موس هيس» Moses Hess (1812 – 1875) – وهو فيلسوف ألمانى يهودي، أحد مؤسسى الصهيونية العمالية - بل إن الفيلسوف الألمانى «كانط» Kant (1724 – 1804) استخدم هذا التعبير فى إحدى ملاحظاته على الطبعة الثانية من كتابه «الدين فى حدود العقل الخالص» عندما قال: «إذا تدخل القس لحظة الموت بصفته مواسيًا ومعزيًا، فإنه يقدم بالتالى (الأفيون) إلى الوعي».