الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

حكايات حارتنا.. الفلسفية

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
«هكذا أفكر»
فذلكة
يتضح لنا وبشكل جيد أن دعم أى فترة – بمؤسساتها الجلية وبما يمكن تسميته الذوق العام – للعنصر الروائى السائد الذى يدعمها وتدعمه هو حركة ذات عمق سياسى تهدف إلى نسف تصور قديم للعالم تم ترسيمه ومنع التصورات المغايرة له بذلك. وتبقى مقاربة باختين لهذا الموضوع متميزة بسبب ازدواجية زوايا النظر التى يمنحها إياها تراوحه بين النقد والتاريخ العقلي، بين السرد والفلسفة، بين الوصف والحكم التقويمي. 
لقد كان باختين واعيـا جدا بالتعقيد الشديد لعمليـة المخاض الأدبـى الفلسفـى والتاريخى الذى أدى إلى نشأة الرواية الحديثة مع مطلع القرن السادس عشر... ها هو ذا يتأمل النصوص السير ذاتية قائلا: «من الضرورى أولا قبل الانتقال إلى النمط الثالث من الرواية القديمة إبداء تحفظ جوهرى للغاية، وهو أننا نعنى بالنمط الثالث الرواية السيرية (البيوغرافية) لكن الأدب القديم لم ينشئ عملا سيريا كبيرا بوسعنا فيما لو استخدمنا مصطلحاتنا أن نطلق عليه اسم الرواية. لكن الأدب القديم أنشأ أشكالا جوهرية من السيرة والسيرة الذاتية لم تؤثر تأثيرا ضخما فى تطور السيرة والسيرة الذاتية فحسب، بل فى تطور الرواية الأدبية كلها، ويقوم فى أساس هذه الأشكال القديمة نمط جديد من الزمن السيرى (البيوتوبوغرافى) وصورة جديدة بنيت بناء خاصا للإنسان الذى يقطع طريقه فى الحياة».
تنويعات
العتبة الفلسفية الفاصلة بين السير تتحرك بشكل مثير للانتباه عند هذه النقطة. فالسؤال ذو الاستلزمات الفلسفية المهمة حول: من منا يمكنه تقديم سيرته الشخصية كسيرة جديرة بالتدوين؟ هو سؤال ذو بعد فلسفى يتجلى على أديم فلسفة التاريخ التى هى رصد لحركة فترة معينة من خلال مؤشرات فردية وأخرى جماعية يمكنها أن تكون منوطة بمجموعة خاصة من الأفراد المتميزين الذين صارت لهم خريطة «بيوتوبوغرافية» حاملة لدلالات جديدة لتحديد الأعلام والرجال الكبار والأفراد الاستثنائيين الجديرين بتقديم سيرتهم «العطرة» لأبناء زمنهم – والأزمنة الآتية أيضا- كنموذج فلسفى يحتذى ويُرسّم ويشار إليه كنقطة فارقة فى التاريخ. 
نيتشه يقول: «إن كل فلسفة هى فى النهاية سيرة ذاتية لعقل فيلسوف ما «... وإن كان هنالك من الفلاسفة من يحذر من هذه النقطة بالذات كعلامة دالة على إفساد للتيار الطبيعى للحياة بإخراج التاريخ من سير «عادي» باتجاه منظومات قيم مشبعة باليقين الذى كثيرا ما أدى بنا صوب اليقينية التى تولّد الشمولية الفلسفية والتى تمهد للشمولية السياسية. 
إن جمهور المتأدبين نقادا ومؤرخين يميل صوب البحث فى أغوار الثقافات المحلية - على اختلاف المشارب - عن آثار لما تحيط به النظريات الحديثة، من ذلك ما يفعله جمهور من النقاد فى الضاحية العربية مثلا – من أمثال عبد الله إبراهيم ونبيلة إبراهيم ويقطين ومحسن جاسم الموسوي...الخ - يقومون فى تطبيقاتهم بإسقاط للعتاد المنهجى التفكيكى علــى النصوص العربية، أو ما يقوم به نصر حامد أبوزيد باحثا عن الآثار السيميولوجية فى التراث الفكرى واللغوى العربي... أو ما سيشكله سعيد يقطين وعبد الفتاح كيليطو بحثا عن ملامح السرد الحديثة فى صلب الكتابات العربية القديمة (الخبر مثلا) أو منقبا عن إحداثيات القصة (أو النص السردى) على معلم السيرة الشعبية... والمسار نفسه متكرر مرارا. 
الشيء الذى لا يمنع سلوكا مقابلا يصر على الفصل بين كل شبيهين وقف بينهما أى حاجز فاصل، أو ملمح نشاز، وعلى رأس ما يقف بينهما التاريخ الذى يجتهد جنونيا فى التفرقة بين الشيئين المتماثلين متى ما فرق بينهما زمن ما. 
يرد هنا سؤال مزدوج وجيه: هل تعنى السير والقصص والملاحم القديمة شيئا دائما؟ وهل يمكن إيجاد ملمح فلسفى فى كل سيرة يحياها عقل جبار، قياسا على سؤال نيتشه؟
يقوم انتقاد هذه النظرة التاريخية على أساسين رئيسيين؛ الأول يتكئ على بطلان السياق التاريخى الذى جاءت فى إطاره الملاحم، ونقول بطلان السياق التاريخى والأصح قول: بطلان السياق العقيدي، لأن الملاحم مرتبطة لا محالة بوثنية ما، بعقائد تعددية، باعتقاد فى آلهة وأنصاف آلهة وأبناء مفترضين لهؤلاء الذين لا مهرب من وسمهم بميسم إنساني، ولا يعسر على الأنثروبولوجيين استعادة جميع الملامح الواقعية الحقيقية التى تختفى خلف ذلك النظام الرمزى المعقد، والنتيجة كانت أن ملمح البطل (الأبطال) فى الرواية تغير كثيرا، فهذا الأخير أصبح قابلا للضعف ولخسارة السباق، للبقاء دون تحقيق مراميه ودون الوفاء لوعوده البطولية.. وكل هذا يقف موقفا نقيضا لموقف الملحمة... ويمكننا تلمس معادلات هذا الوضع على أديم الفلسفة بيسر كبير، سقوط الميتافريقيات واليقينيات الكبرى، الانتقال من عقل الجبابرة المهيمن على الكون فى مركزية للأرض إلى العقل البشرى المتكور حول نفسه والباحث عن الحقيقة يقين واحد مجروح هو يقين ضرورة التخوف من اليقين...الخ الخ.
والأساس الرئيسى الثانى للانتقاد الذى كما بصدده هو كون الرواية أكثر اهتماما بالأداء اللغوى (وبالجانب الشكلى عموما) مما كانت عليه الملاحم قديما، إذ إنها - رغم كونها تكتب شعرا - كانت تيسر أمر الناظم، ولا تحاسبه محاسبة شعرية عسيرة، لسبب بسيط هو كون المعول عليه فى الملحمة فيما وراء اللغة وفيما وراء الشكل هو «المضمون» وإن كانت هذه الكلمة مطاطية جدا. 
خلاصة القول
سيرة العقل التى يتحدث عنها نيتشه هى سيرة انتقلت بنجاعة من الطابع الجماعى صوب الطابع الفردي، وإذا كان لابد من النظر صوب الثالوث الإغريقى سقراط / أفلاطون/ أرسطو على أنهم راصدون اجتماعيون جيدون فى تعارض فلسفى صارخ مع توجه عالم الآثار الداخلى الذى هو شوبنهاور أو نيتشه، فإننا سنعيد حساباتنا إذا وقفنا مع شخص مثل بيار بورديو وهو يقيم اعتراضات كبيرة على الميراث الفلسفى الذى بلغ عصره معيدا النظر فى أغلى ما ينتصر له عصرنا: الفرد، العقل، الأخلاق، الديمقراطية، حرية التعبير، المسئولية الفردية على الفعل.. فهو يدعو بشكل ما إلى العودة إلى رصد جديد للمجتمع وإلى كتابة تاريخ ملحمى يعود فيه فعل الفرد إلى موقعه من العبقرية الجماعية التى هى عبقرية تنسب إلى الحارة وليس إلى ساكن استثنائي يتم تعظيمه نسميه الفرد، ساكن واهن يراه بيار بورديو عاجزا عن الفهم، غير متمكن من التجريد، يتبنى أخلاقيات معروضة عليه بعيدا عن الأخلاق التى لا يملك الأداة الكافية للحكم عليها، يقوم بالتصويت حسب برمجة كبيرة يخضع لها، خاضع لآراء إخصائيين ولمعطيات إحصائيات تحدد له سلفا معنى الحقيقية وحدود نظرته صوبها.