الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ثقافة

معركة ثقافية في قلب تداعيات "البريكست"!

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
في قلب تداعيات خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، أو ما يعرف اختصارا بـ"البريكست"، تدور الآن معركة ثقافية تنتعش فيها الكتب مع استدعاء التاريخ والتعبيرات الفنية والموسيقية، جنبا إلى جنب مع الجدل حول إشكاليات مثل "الهوية" و"التعدد الثقافي".
وغداة قمة أوروبية صادقت على "اتفاق البريكست"، كانت رئيسة الحكومة البريطانية تيريزا ماي قد تحدثت، أمس الأول الاثنين، أمام النواب أعضاء مجلس العموم في بلادها لإقناعهم بالمصادقة على اتفاق خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، فيما استقال مؤخرا عدد من الوزراء في حكومتها احتجاجا على هذا الاتفاق المثير للجدل على مستويات متعددة من بينها بعض دوائر المثقفين.
ولئن وصف وزير الخزانة البريطاني فيليب هاموند بلاده بأنها "مقسمة"؛ وذلك في سياق تناوله لمسودة الاتفاق المتعلق بخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، معتبرا أن هذه المسودة أفضل حل متاح "لإعادة توحيد الدولة المقسمة"، فإن الصحافة الثقافية البريطانية سعت بسرعة لمواكبة تداعيات هذا الحدث السياسي الكبير ومضت تنشر قوائم بأفضل الكتب التي تتحدث عن الحكومات المقسمة والصراعات السياسية عبر التاريخ.
وهكذا تتوالى الآن عناوين كتب تتناول الانقسامات في الحكومة والساحة السياسية البريطانية، وبعضها ينتمي للأدب مثل روايتي "فينياس فين" و"فينياس ريدوكس" لأنتوني ترولوب الذي قضى في عام 1882 ووصف بأنه من أهم الأصوات الروائية في الأدب الفيكتوري وصاحب الباع الطويل في الكتابة الإبداعية عن تعقيدات ومكائد النظام السياسي البرلماني في بريطانيا وثمن الانخراط في هذا النظام الحافل بالمناورات.
وأنتوني ترولوب، الذي حظى إبداعه الروائي باهتمام كتاب ومفكرين كبار في الثقافة المصرية والعربية ككل مثل عباس محمود العقاد، هو أيضا صاحب كتاب "رئيس الحكومة"، فيما كتب عن رئيس الوزراء والسياسي البريطاني الشهير في عصره بنجامين دزرائيلي ودوره التاريخي في حزب المحافظين "بنزعته الامبريالية" وهو الحزب الذي يحكم بريطانيا الآن في خضم تداعيات أزمة "البركست".
والمثير للتأمل أن دزرائيلي ذاته كان صاحب قلم ومن أصحاب الروايات، بل إنه عبر عن أهم أفكاره السياسية في رواياته ليكون مثالا "للمثقف الامبراطوري البريطاني في العصر الفيكتوري الجامع ما بين الأدب والسياسة".. غير أن صاحب روايات "نهضة الإسكندر" و"انديميون" و"فيفيان جري" و"تانكرد"، كان في نظر الروائي أنتوني ترولوب "مثالا للسياسي المنافق والمشعوذ"، وهي نظرة تقترن بممارسات دزرائيلي داخل حزب المخافظين، فيما يرى كتاب في الصحافة البريطانية الآن أن هذه الممارسات ما زالت حاضرة في حزب المحافظين وسط الأزمة الراهنة "للبريكست".
بل إن هذه الأزمة السياسية البريطانية استدعت أسماء شخصيات وعناوين كتب شهيرة في التاريخ الثقافي- السياسي للغرب مثل "الأوراق الفيدرالية" لثلاثة من الآباء المؤسسين للولايات المتحدة الأمريكية، وهم ألكسندر هاملتون وجيمس ماديسون وجون جاي، وبعضها يرجع لنحو 500 عام مثل كتاب "المطارحات" لنيكولو مكيافيللي الذي قضى في الحادي والعشرين من يونيو عام 1527، ناهيك عن كتابه الأشهر "الأمير" والذي نشر بعد 5 سنوات من وفاته.
وبالطبع استدعت الأزمة الراهنة أو "دراما البريكست" اسم السيدة الحديدية مارجريت تاتشر التي قضت في 8 أبريل 2013 باعتبار أن رئيسة الوزراء البريطانية الراحلة من أهم قيادات حزب المحافظين في العصر الحديث، بينما يتجدد الاهتمام بسيرتها الذاتية التي كتبها تشارلز مور بعنوان "ليس من أجل تحول"، وتستعرض الكثير من الأزمات السياسية في زمن السيدة الحديدية.
ومع أن المؤرخ والكاتب البريطاني بيتر فرانكوبان؛ صاحب كتاب "طرق الحرير الجديدة"، يرى أن على البريطانيين الخروج من "شرنقة الذات، كما أن على الأوروبيين التخلي عن وهم أنهم مركز العالم خاصة في ضوء ظواهر عالمية مثل الصعود الصيني، فإن هناك بالفعل تيارا قويا في بريطانيا يرى في المقابل أنه من الأفضل للبريطانيين أن يتمركزوا حول "الذات البريطانية بعيدا عن هموم العالم الخارجي بما في ذلك أوروبا".
وهذا التيار الذي كان وراء التصويت بأغلبية - وإن كانت محدودة - لصالح انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، أو ماعرف "بالبريكست"، له حضوره الواضح في الحياة الثقافية البريطانية وتعبيرات وصيغ فنية مثل الفن الشعبي وموسيقى الشارع، فيما يبدو مشدودا بحنين غلاب لتراث "إنجلترا البيضاء".
وأنصار هذا التيار الذي ظهر منذ أكثر من عقدين ليرسخ حضوره الثقافي في مجالات متعددة من بينها الموسيقى حيث يشجع موسيقى البوب البريطانية أو مايعرف اختصارا "بالبريت بوب"، يرحبون الآن بخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، معتبرين أن السنوات الـ45 لبلادهم داخل هذا الاتحاد مرحلة انتهت للأبد بانتصار الهوية البريطانية ولسان حالهم يقول "لا تنظر خلفك في غضب"!
ولا ريب أن مثقفا مثل القاص البريطاني ريتشارد كيلي يعارض بشدة هذا التوجه الذي يصفه ضمن كتلة لا يستهان بها من المثقفين البريطانيين بـ"التوجه الانعزالي"، فيما كان ريتشارد كيلي قد انتقد مطولا في كتابه "السكاكين" رؤى وسياسات تيريزا ماي حيال قضايا الهجرة والغرباء وتهديدات التطرف بصورها المتعددة ولابد وأن هذا القاص يشعر الآن بالأسى وبلاده على وشك الانتهاء من ترتيبات الخروج النهائي من الاتحاد الأوروبي.
وحسب الاتفاق الذي صادقت عليه القمة الأوروبية الاستثنائية يوم الأحد الماضي في بروكسل بعد مفاوضات صعبة استمرت 17 شهرا، فإن هناك فترة انتقالية مدتها 21 شهرا تبدأ بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي اعتبارا من 29 مارس القادم، فيما من المقرر أن يصوت البرلمان البريطاني على الاتفاق يوم 11 ديسمبر المقبل.
ورغم أن الاستفتاء الذي أجري في شهر يونيو 2016 في بريطانيا أسفر عن تأييد نسبة بلغت 52% من الأصوات "للبريكست"، فقد استمرت الانقسامات الحادة في الداخل البريطاني بين مؤيدي البقاء داخل الاتحاد الأوروبي والراغبين في الخروج من هذا الاتحاد.
وإذا كان "البريكست" موضع تحليلات اقتصادية للتعرف على مدى تأثير هذا الحدث الكبير على الاقتصاد البريطاني بل والأوضاع الاقتصادية في أوروبا والعالم ككل، فإن الصحافة الغربية تحفل الآن بطروحات حول أسباب الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي من "المنظور الثقافي". 
وقبل ذلك كان الكاتب الإنجليزي فيليب بولمان الذي يبدو معارضا بشدة لهذا الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي قد وصف البريكست بـ"الكارثة" وانتقد ما وصفه بـ"أوهام إمبراطورية مازالت تسكن نفوس البعض في بريطانيا".
واعتبر فيليب بولمان أن الإحجام البريطاني الطويل عن الانضمام لكيانات أوروبية أفضى لمشاعر سلبية حيال الانتماء لأوروبا أو الالتزام بقضايا القارة الأوروبية ككل وحال دون الفهم العميق للروابط والعلائق الحقيقية بين بريطانيا وأوروبا.
ولم يعف بولمان الزعيم الفرنسي الراحل شارل ديجول من بعض المسؤولية عن هذه المشاعر السلبية للبريطانيين حيال أوروبا جراء رفضه انضمام بريطانيا للسوق الأوروبية المشتركة، فيما رأى أنه لو انضمت بريطانيا مبكرا لكيانات أوروبية مشتركة لكانت فرصتها أكبر في تشكيل هذه الكيانات والتأثير على مسارات تطورها.
وكان ديجول قد اعتبر أن بريطانيا "تكن كراهية متجذرة للكيانات الأوروبية"، وحذر من أن انضمامها للسوق الأوروبية المشتركة سيفضي لتحطيمها حتى أنه أصر غير مرة على رفض طلبات تقدمت بها بريطانيا للانضمام لهذه السوق.. وهكذا لم يكتب لها الانضمام إلا بعد أن ترك ديجول الحكم في بلاده وخرج من الحياة السياسية الفرنسية والأوروبية.
وفيليب بولمان، الذي وصفته جريدة "التايمز" البريطانية بأنه "واحد من أعظم 50 كاتبا بريطانيا منذ عام 1945"، حمل على الصحافة البريطانية في سياق تناوله لخروج بلاده من الاتحاد الأوروبي، معتبرا أنها في مجملها لم تؤازر الأفكار الوحدوية الأوروبية، وخص بالذكر الصحف ووسائل الإعلام التي تمتلكها عائلة الملياردير روبرت ميردوخ والمتهمة دوما بالجنوح اليميني نحو الإثارة وتغذية النزعات الشعبوية الديماجوجية.
وإذ خلص فيليب بولمان إلى أن بريطانيا أمست بحاجة ماسة "لتغيير جوهري"، فإنه تساءل بأسى عمن يمكنه النهوض بهذه المهمة في المشهد الراهن الذي تتصدره صحف ووسائل إعلام تؤجج المشاعر العنصرية والنزعات الشعبوية غير المسؤولة.
ومن الدال أن الصحف البريطانية المعارضة للبريكست، مثل صحيفة الأوبزرفر اعتبرت أنه في "الأوقات المضطربة يكون من المطلوب والمفيد الاستعانة بإبداعات الأدب كدليل ومرشد للإلهام والحكمة"، ومن ثم راحت تبحث في الإنتاج الأدبي البريطاني للحصول على إجابات عن "أسباب البريكست".
وإذ ترددت أصداء "البريكست" في الثقافة العربية ومنابرها منذ الاستفتاء الذي شهدته بريطانيا قبل أكثر من عامين، كان الكاتب الكبير وعالم الاقتصاد المصري الدكتور جلال أمين الذي فقدته الحياة الثقافية المصرية والعربية في هذا العام، قد اعترف بأن نتيجة الاستفتاء البريطاني والتي جاءت بالخروج من الاتحاد الأوروبي كانت "مفاجأة مدهشة" له، فإنه رأى أن ما حدث "ينبيء بتحول خطير في أحوال العالم"، و"محنة تمر بها العولمة".
وبدا الراحل جلال أمين حزينا للخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي، فيما رأى أن "الديمقراطية ليس من الواضح تماما أنها أصابت هذه المرة"، موضحا أن الأمر لا يتعلق بالآثار المحتملة على الاقتصاد البريطاني وإنما "المغزى المهم يتعلق بما تتعرض له العولمة من محنة في السنوات العشر الأخيرة".
وحول "البريكست"، رأى المفكر والاقتصادي المصري الدكتور سمير أمين الذي فقدته أيضا الحياة الثقافية المصرية والعربية هذا العام، أن الارتباك "مخيف" و"الاتحاد الأوروبي معطل"، فيما استطاعت ألمانيا أن "تؤكد هيمنتها في إطار البناء الأوروبي".. أما بريطانيا "فلا تنوي بالتأكيد أن تمارس سيادتها في طريق يبعدها عن الليبرالية الجديدة".
وأضاف "بل على العكس، فإن لندن تأمل أن تزيد انفتاحها على الولايات المتحدة الأمريكية، بينما تبدو دول الكمنولث والدول الآسيوية الصاعدة بديلا عن الأولوية الأوروبية ولا شيء آخر ناهيك عن عدم وجود برنامج اجتماعي أفضل". 
وما كتبه الراحلان الكبيران سمير أمين وجلال أمين يؤشر إلى أن قضية خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي متصلة على نحو أو آخر بقضية أخرى تثير اهتمام مثقفين عرب وأجانب وهي "ماهية الحدود في عصر العولمة"، فيما يقول المفكر الفرنسي ريجيس دوبريه إن "من لا حدود له لا مستقبل له".
واعتبر أن البشر سيجدون أنفسهم مجبرين أمام شراسة العولمة على إعادة الاعتبار "لأبوابهم القديمة التي كان قد جرى فتحها تحت دعاوى براقة وكأنها الطريق الوحيد للدخول في روح العصر".
وقد تكون المشكلة الحقيقية للاتحاد الأوروبي الآن ككيان وحدوي أن أحزاب اليمين المتطرف في عدة دول أوروبية أعضاء بالاتحاد تطمح بدورها لاحتذاء حذو بريطانيا والخروج من هذا الكيان وشن "الحملات الكريهة ضد المهاجرين"، فيما يعاني اليسار من "الهشاشة"؛ على حد وصف الدكتور سمير أمين.
يبدو أن "البريكست" خطوة جديدة في عالم مرتبك، لكنه يتشكل من جديد والغرب يراجع حساباته بدقة وعلينا هنا أن نتشبث بجذورنا الحية في الأرض المصرية والعربية والدفاع عن دولنا الوطنية، فلا يجوز أن نسمح بخديعة جديدة تغتال أحلام المستقبل في عالم حافل بالتحولات والمتغيرات الخطرة!.