الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

الفقر.. قلة حيلة وليس قلة مال!!

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
«لقد خلقنا الإنسان فى كبد».. هكذا وصف الله تعالى حياة الإنسان منذ ولادته.. ولكنه كما جعل الدنيا دار اختبار منحنا فيها حق الاختيار، لذلك حين تقهرنا أقدارنا وتخوننا حظوظنا، نجد البعض يتحجج بالظروف ويستسلم لها، ونجد من يقاومها حتى يغلبها.. ومن أجمل القصص الحقيقية التى تبرهن على قوة الإرادة وقهر الصعاب، قصة «على باشا إبراهيم» رائد الطب فى مصر الحديثة، والذى أصدرت مكتبة الإسكندرية كتابا عنه عام ٢٠٠٨، قدمه خالد عزب وسوزان عابد فى عرض شيق، وتضمن قصة كفاح والدته السيدة العظيمة مبروكة خفاجى، والتى قهرها الزوج بفقره، فتحدت القهر وغلبت الفقر.. وغيرت مسار عائلتها لتتحول من عائلة لا تجد قوت يومها إلى عائلة من أعرق العائلات المصرية!!.. فقد كانت فتاة صغيرة غير متعلمة من إحدى قرى مدينة مطوبس التى تتبع محافظة كفر الشيخ حاليا، وتزوجت فى سن مبكرة من إبراهيم عطا، والذى كان فلاحا أيضا من قريتها، ولكن بعد شهور قليلة من الزواج طلّقها الزوج لفقره وعدم قدرته الإنفاق عليها، رغم أنها كانت فى الشهور الأخيرة من الحمل!!..انتقلت للعيش مع والدتها وشقيقها فى الإسكندرية.. وفى ١٠ أكتوبر عام ١٨٨٠ أنجبت ابنها «على»، واضطرت للعمل فى مهن بسيطة حتى تستطيع إعالة نفسها وابنها، وقررت أن تبذل أقصى جهدها حتى يتعلم هذا الابن وتراه كما تتمنى، وبعد أن حصل على الشهادة الابتدائية عام ١٨٩٢- وكان ترتيبه الأول على مدرسته- أراد الأب أن يضمه إلى حضانته، حتى يوظفه بالشهادة الابتدائية، والتى كانت تضمن لصاحبها وظيفة محترمة فى ذلك الوقت!!.. فراوغت الأم حتى لا يتوقف مسار ابنها التعليمى عند هذا الحد، وهرّبته عبر أسطح الجيران، وفرت به إلى القاهرة، حيث عملت لدى عائلة السمالوطى حتى تستطيع الإنفاق على تعليمه.. وبعد رحلة طويلة من الشقاء والكفاح نال الابن شهادة البكالوريا بتفوق فى عام ١٨٩٧، والتحق بمدرسة الطب بقصر العينى وتخرج منها عام ١٩٠١، وكان لتفوقه يتلقى ثلاثة جنيهات شهريا كمنحة للطلبة المتفوقين لتشجيعهم على مواصلة الدراسة، وعرفانا منه بفضل والدته، كان يرسل الجنيهات الثلاثة إليها، أما هو فكان يعيش بما يحصّله من قراءته للقرآن على المقابر فى الإجازات!!.. وفى الوقت نفسه حرص على التفوق، ولم يكن يكتفى بالمناهج الدراسية، بل يجتهد فى قراءة المجلات العلمية الطبية المتخصصة، والتى كان أغلبها باللغة الإنجليزية.. وبعد التخرج بدأ رحلته العملية بافتتاح عيادة بالتعاون مع أحد أصدقائه فى إحدى المناطق الشعبية، لكنهما اضطرا إلى إغلاقها بعد شهور عدة لأن الإقبال آنذاك كان على الأطباء الأجانب فقط، وبعد رحلة من الإخفاقات والنجاحات فى مسيرته المهنية بدأت شهرته، والتى توجها بنجاحه فى علاج السلطان حسين كامل من مرض فشل الأطباء الأجانب فى علاجه، فمنحه السلطان لقب جراح استشارى الحضرة العلية السلطانية.. وفى عام ١٩٢٢ منحه الملك فؤاد الأول رتبة الباشاوية وبعدها انتخب على إبراهيم لعضوية مجلس النواب، ثم اختير عميدا لكلية الطب عام ١٩٢٩، وكان أول عميد مصرى لها، فتطورت فى عهده تطورا كبيرا واتسعت مساحتها وأقسامها، وزادت البعثات العلمية إلى الخارج، وفتح الباب لدراسة الفتيات للطب، وفى يونيو ١٩٤٠ عيّن على إبراهيم وزيرا للصحة، وبعدها بعام خرج من الوزارة ليعيّن مديرا لجامعة فؤاد الأول فى سبتمبر ١٩٤١.. وكان هو أول من أسس نقابة الأطباء والجمعية الطبية المصرية وأسهم فى تأسيس جامعة الإسكندرية ومستشفى الجمعية الخيرية الإسلامية وجمعيات أخرى لتنمية الريف وإنقاذ الطفولة.. ليتحول ابن السيدة المكافحة البسيطة إلى رائد النهضة الطبية فى مصر الحديثة، ويصبح أبناؤه وأحفاده من بعده من أهم الأطباء فى مصر فى العديد من المجالات.. لتثبت أن الإمكانيات والظروف ليست عائقا إذا توافرت قوة الإرادة، فرغم تحملها لأسوأ الظروف إلا أنها بأمومتها حلمت وأرادت وأصرت فحققت حلمها.. هذه السيدة العظيمة تستحق أن يخلد اسمها ويعرفها العالم أجمع.. فهى تعلم الناس الأمل والصبر والعمل.. وتثبت أن الإنسان فى أى مكان قادر على تغيير ظروفه.. وبالتأكيد هناك نماذج أخرى تستحق أن نحتفى بها، ولكن فلنبحث عن تلك النماذج الملهمة.. بدلا مما نراه الآن فى هذا الزمن.. والذى أصبحت فيه الجوائز والتكريمات مرتبطة بالمصالح والعلاقات، وفى الغالب تذهب لغير مستحقيها، فنسأل لماذا فلان وعلى ماذا؟.. فلا نجد دورا حقيقيا أو تأثيرا!!.. لذلك غابت القدوة، واختلط النفيس بالرخيص وفقدت الكثير من الأشياء معناها!!..فلنتعلم من هذه السيدة القوية الملهمة، التى برهنت على أن الفقر ليس فى قلة المال، ولكن فى قلة الحيلة وضعف الإرادة والاستسلام للظروف.. وأثبتت منذ أكثر من مائة عام أن المرأة لا تحتاج إلى من يمكنها!! فتمكينها فى يدها إن أرادت!!.