الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

البوقالة الطرابلسية (2 من 2)

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
مصطلح البوقالة يُحيلنا إلى مرجعية دلالية ذكورية فهي (نوع من الأدب الشعبي لشاعر أو راوي مجهول المصدر)، وفي تأويلنا للـ: بو، قاله، فمقطع: البو= الأب، وهو لفظ دلالته تشير إلى مالكها، (القالة، القول) وربما كان المُلقي الأول لهذه الأبيات ذكر، ثم تحولت ملكيتها الى المرأة مع الإبقاء على التسمية (البو قالة)، فمتنها شُغله الشاغل والمخاطب فيه الرجل، وإن كان الخطاب الشائع أحادي الوُجهة من المرأة إلى المرأة، والقاله: من القول أو ما يصدر عن الكائن، وفي حديث جمعني بباحثة جزائرية لفتت انتباهي إلى أنهم يسمون حلة الفخار (ذات الغطاء المفصول) التي يطبخون فيها: "البوقالة"، ويقصدون حكاية الصوت الصادر عن الغليان!
أغراض البوقالة 
لعل أول غرض للبوقالة وطقوسها هي الاجتماع والالتقاء سمرا وتزجية للوقت واستمتاعا بلُعبتها المُلغزة، إذ التمنيات في المَجّمَع تظل سر صاحبتها! ولنا أن نضيف أن لها وظائفها التربوية! كونها تصدر عن أم أو جدة لها علائق حميمة بفتيات العائلة (داخل البيت) والفتيات الأخريات (الضيفات من المحيط المكاني ) وهي سيدة لها مكانتها واحترامها من تُشيع الأمل والتفاؤل، وتُعالج وتُبلسم نفوسهن بالأمل والرجاء في ذلك الجمع النسوي، خاصة وان عوالمها مغلقة حيث لا متنفس إلا ما تبثه رسائل البوقالة، ولو كانت صناعة وهم! لما تحب وترغب من منح مُتخيل، لمشاعر جياشة تجاه حبيب مُنتظر يأتي وقد لا يأتي، تتوسل في ذلك بوسائط قولية دينية شائعة تبدو كلازمة تبعث الأمان والاطمئنان لقبول ما تتطلع إليه، كاستدعاء الأولياء الصالحين (سيدي عبد الوهاب، وياسيدي مصطفى، يا سيدي فرج).
ورغم بساطة وعفوية هذا المخزون الأنثوي الشعري الذي يُنظر إليه في يومنا هذا مرتبطا بوعي زمانه ومكانه واشتراطاته الاجتماعية والثقافية، فإننا نلمس في متن الأشعار المنثورة صور لامرأة تُفني ذاتها من أجل إرضاء الأخر المُتخيل القادم، أو الزوج المُتحقق، ولا يظهر كيانها ومركزها إلا موصوفة بالمطيعة المؤدبة والحافظة لشرفها وعفتها في حضوره وغيابه، لا تطلب شيئا لذاتها إلا أن تكون له الأنثى الجميلة المُغوية المرغوبة،المثال للخصوبة والحنان،وسنعرض نماذج تدلل على ذلك. 
المحظور تُعلنهُ البوقاله !
إلا أن هناك ما يشذ في نص البوقالة عن تلك الصور التقليدية، وحتى لا يكون حُكمنا عموميا، ففي المتن ما يوحي بالتمرد والاحتجاج على بعض من المحظورات والضوابط الاجتماعية الملزمة للمرأة كتابعة وخاضعة، حين نسمعها تعلن عن رأيها في اختيار من تحب، بتحديد شروطها في شخصه وسلوكه بل وحتى مهنته، ويصل رفضها المعلن تجاه من أجبرت على الزواج به حد تركه والهرب لملاقاة من أحبته ورغبته !، كما إنها تنتقد بعضا من السلوكيات الاجتماعية السيئة كالنميمة، والغيبة، والغيرة في غير محلها، وأيضا التميز العنصري والفوارق الطبقية.
جماليات البوقالة 
وتمنحنا "البو قالات" عند الاستماع إلى نصها أو قراءتها ما يُمتع حواسنا بمشاهد جمالية مستقاة من المكان المغلق الذي ألفته وملأ بصرها، نتحسسه معها ونتذوقه! فمن مستعملات الحياة اليومية التي تبدو ذات خصوصية لطرابلس وضواحيها ومداخل بيوتها (محبس حبق، الخوخ والرمان، الدلنجة، وردة وشمامة وريدة، زريعة الكسبر) وما ارتبط بالأزياء الشعبية (كاط الطرنج، فرملة زرقة، حولي مور، لبست العكري، دبالج ذهب)، وعرض مفتوح لمباهج الجسد من عالم الأنوثة الخاص وفضاءاتها، فالبو قالة الملاذ للبوح الأنثوي المشرع حتى أنها تستعير صوت الآخر لتتغزل بمباهجها نيابة عنه: (سالف على خدها، بالمسك والعنبر تملأ بتاتيها، قفطان زهر، النجوم مثلتهم ساقك، هدلت اديك الشعور، والوشقة والجنزارة، عود قماري، خطمت تجرجر في فوطتها،وشمه علي خدها زي القنديل) وتفاصيل من معمار الأمكنة المتعددة الظاهر والخفي. (طبست على شط البحر، مشيت للحومة، سقيفتها بالمصابيح تضوالي، خشيت باب الجنان، الحوش بالداليا والجابية بالحوت، قفص مرجان، روحنا من أزمير، السما قنطرة والبحر سلوم).
الأصدار (البوقالة في الموروث الشعبي الليبي ) أعلمتني صاحبته الشاعرة " كريمة الشماخي" المقيمة بهولندا في مكالمة هاتفية دارت بيننا مؤخرا، بطبعة تصحيحية ثانية لتتفادى بعض العيوب الفنية التي شابته.