الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

بوصلة المؤرخ الضرير

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
فذلكة
للتاريخ فى العرف السائد تأويلان: واحد مادى يجعل تفسير الوقائع مرتبطا بالحوادث وبإرادة البشر أفعالهم (رؤية ماركسية)، وتفسير مثالى يرى أن للتاريخ أهدافا تتجاوز الإنسان ورؤيته المحدودة للأشياء (رؤية هيغلية)؛ وقد صار هذان المفهومان غير مؤهلين للحكم على التاريخ بشكل دقيق ونهائى كحركة ذاتية للتكوين الذاتى لسبب بسيط، هو عدم حدوث الفصل النهائى فى أمرهما، وتعرضهما للجدل باستمرار، وهو ما يمنع عنهما نهائيا صفة العلمية، ولو بالمعنى الكلاسيكى لكلمة «علم». والحاصل هو أن الجدل القائم يدور حول جعل المثالية مستقلة عن كل ملمح مادي، والتمكين للعكس أيضا بطبيعة الحال. 
هذه الإشكالية وما يعتورها من غموض هى مفتاح رفض فلسفة التاريخ بالشكل القديم، فى القرن العشرين، والعمل الدؤوب على تجاوزها تماما، أو ربما التعامل معها على أساس كونها إشكالية تدخل ضمن الظرف التاريخى ولا تشرحه بشكل متعال.
هذا الرفض الملاحظ لدى الجيل الجديد من المفكرين الذين جرت العادة على عدهم منتمين إلى الزمن ما بعد الحداثى ليس رفضا صميميا لفلسفة التاريخ كما رأيناها أعلاه، بل هو رفض متمحور حول ما يمكن وصفه بزواج المصلحة بين التاريخ والمادية من جهة، وبين كل من المثالية والرؤية الانعكاسية للمعنى التاريخى من الجهة الأخرى. إن الاختيار التلقائى بين وجهة النظر «الدياليكتيكية» وتلك الظواهرية لم يعد مطروحا أصلا، من منطلق أن كل اختيار ينتهى بأن يكون مبنيا على معاداة ومناقضة الاختيار المقابل، وهو الأمر الذى يجعلنا نجانب الصواب مرارا.
تنويعات
لزمن مديد تمحورت المناقشات كلها حول ضرورة الاختيار بين مقولات الصراع الطبقى أو مثالية الوساطة الذاتية للمعرفة الاجتماعية. وبالتالى فقد عمل الجيل الجديد على تخطى عقبة الأصل المشترك لفلسفة التاريخ لكى يتمكنوا من تخطى عقبة هذا الثنائى الغريب الذى انتهى بنا إلى الاعتقاد بأن مسائل ظهرت فى مرحلة ما من سيرورة الحياة على الأرض، ومن مسارات التطور البشري (لكى لا نقول من التاريخ) هى مسائل قديمة لا يمكن طرح المادة التى عملت عليها هذه المسائل أو التى ظهرت فى كنفها من دون التعرض لزاوية النظر المحتواة فى هذه المسائل، وذلك بالتحديد ما تفعله الثنائية المتسلطة على البحث (مادية/مثالية).
ومن الغريب أن نلاحظ أن هذه «الثنائية/الأداة المعرفية» تقف عند أقدم ما يمكننا تصوره من المسائل الفلسفية، وتضبط بالتالى رؤية معينة للتاريخ لا محيص عنها لأى باحث يريد بحث المسائل المتعلقة بنشأة البحث الفلسفي، وهى مغبة منهجية حذر منها إيمانويل كانط، باكرا فى نصوصه الشهيرة وهو يقول ما مجمله، بأن الفلسفة ليست المسائل المدروسة ضمن الفلسفة (ولا ضمن التاريخ) هى التى تحدد الحق بل الطريقة التى يشكلها الحقل الفلسفى ويتخذها طريقة تدل عليه ويحيل عليها بالضرورة، والتى هى – فى المقاربة الكانطية للفلسفة- البنية التبريرية الشارحة، التى من خلالها تبرر الفلسفة عقلانيا ومنطقيا مقارباتها لموضوعاتها، ثم تعكف على نفسها مبررة وشارحة طريقتها فى العمل بالشكل العقلانى المنطقى نفسه. 
ليست بعيدة عن كل هذا المقاربة المثيرة للتأمل التى يأتى بها «جون ديوى» محيلا على لاجدوى البحث فى أصول فلسفية تبرر البت فى هذه المسألة فى فلسفة التاريخ؛ التقابل القديم بين التفسير المثالى والتفسير المادى للتاريخ، بل وحتى محاولة السيطرة على النقاش بين المادية والمثالية. لهذا لا نستغرب أن تأتينا هذه المحاولة أول مرة من أمريكا (الولايات المتحدة) بوصفها أرضا غير معنية بالميراث الثقيل للنقاش الفلسفى كما ورثه القرن العشرون، إن جل ما فعله جون ديوى فى هذا الحقل وفى هذا الموضوع هو الاستعانة بالمنظار البراغماتى للخروج من هذه المعارضة. وهى خطوة ستمهد عمل فلاسفة ما بعد الحداثة بشكل كبير رغم ارتباط أهمهم بالميراث اليساري: مدرسة باريس ومدرسة فرانكفوت أساسا. رغم أن وجهة النظر اليسارية لتفسير الفلسفة مرة والتاريخ مرارا ستعرف انبعاثات كثيرة مفسرة التاريخ ماديا، بأشكال جديدة ومتجددة. وهو ما سنراه مع مؤلفين مثل لوسيان غولدمان ولوى آلتوسير وشانتال موف إرنستو لاكلو، أوليفييه بلوخ وباسكال شاربونا ومارسيا بونج، والاتجاه النشط جدا فى الضاحية الأنجلوسكسونية المسمى باليسار الجديد the new left.
وفى حين يبتغى كثيرون إقامة الصراع الطبقى كمواطن أصلى للفلسفة، واستبعاد الرؤية المثالية التى زعزع بنيانها القرن العشرون بإصرار كثير من أعلامه على رفض الحتمية كمآل للتاريخ،... يقف خلف كل هذا الجدل الطابع الذى عكف عليه «دبلثاى» من خلال بدئه فى عرضه الشيق لفلسفة التاريخ التى شغلت الجزء الأهم من عمله بين علوم الطبيعة وعلوم العقل، أى نمط المعارف مادته خارج الإنسان يشتغل عليها من خلال إخضاعها للعقل ونمط آخر يكون العقل نفسه هو مادتها (وجهة نظر فيلهالم ديلطاي).
ورغم دقة هذا التقسيم الذى لفت انتباهنا لأول مرة إلى موقع فيلسوف التاريخ من التاريخ، إلا أن مغبة منهجية أخرى تبقى مطروحة؛ أو ربما تنشأ من وجهة نظر ديلطاى هذه، مغبة سببها الطابع المخاتل للمادة التاريخية إذ إن كثيرا من هذه الوثائق مزالق لا حقائق إذا جاز لنا أن نسترجع روح تعبير فوكو الشهير le document est monument، فالوثائق والآثار تتلاعب بالحقيقة التاريخية مانحة إيانا الصيغة التى تكون الفترة قد ارتضتها لنفسها ولا تمنحنا الصيغة التى علينا أن نستعيدها إذا ارتأينا تقريب عمل المؤرخ من عمل عالم الطبيعيات حسب تقسيم ديلطاي. ولو أننا سنجد سندا للبحث التاريخى فى هذه الوثائق/المزالق لكى نحولها من خلال خطابنا التاريخى الموضوعى المعمق إلى وثائق/حقائق، وهذه الطاقة التدليلية إيجابيا أو سلبيا هى أحد المبررات الكبرى لضرورى الإيمان بنجاعة عمل المؤرخ. وإذا أردنا صورة شعرية لعمل هؤلاء، فإنها ستكون صورة جغرافى أصيب بالعمى وبفقدان جزئى للذاكرة يجبر على رسم خريطة لما قد زاره سابقا من البلاد.
خلاصة القول
ترتبط فلسفة التاريخ فى الفترة ما بعد الحداثية بتوصيف استرجاعى يبدأ مدرسيا وينتهى إلى المخالفة الشديدة لتعاليم المدرسية، فهذه الفلسفة بهذا المعنى تحديدا تحيل على «مدونة البحوث الصادرة عن المؤرخين والفلاسفة الذين أرادوا منذ قرنين أن يقيموا المكانة التى تحتلها المعرفة التاريخية فى نظام المعارف، مع المقارنة بما تقدمه العلوم الدقيقة، وذلك بتحديد موضوعاتها ومناهجها ونمط الحقيقة الذى يمكن أن تبلغه. أما المعنى الأخير فهو تحديد «فلسفة التاريخ (كأنطولوجيا للصيرورة)، وهو الذى يحرص على تأكيد أن مسار الإنسان منذ بداية الزمن، يقوم على وحدة عميقة ويمتلك معنى دفينًا، ويمكن أن يضبط هذا المعنى فى فكرة «القدر الإلهي»، قدرًا قد يكون عونًا جيدا للمؤرخ الأعمى الذى ذكرناه سابقا.