الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ملفات خاصة

د احمد يوسف يكتب.. ربطت بحرين ودولتين وتاريخين".. كيف خلقت قناة السويس آفاقا مشتركة بين مصر وفرنسا ؟

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
نظمت وزارة الثقافة الفرنسية وبلدية مدينة نيس بالتعاون مع صحيفة لو فيجارو الشهيرة، ندوة خاصة بمناسبة احتفال العالم العام المقبل بمرور 150 عاما على افتتاح قناة السويس يومي ١٩ و٢٠ أكتوبر الماضي.


الجديد في هذه الندوة هي أنها جمعت بين النقاش العلمي والتاريخي بين المتخصصين في جامعة السوربون وعلى رأسهم البروفسور جاك اوليفية بودون ود.أحمد يوسف الباحث المصري المقيم بباريس وصاحب المؤلفات العديدة في العلاقات المصرية الفرنسية وصاحب الترجمة الشهيرة لمراسلات نابوليون في مصر إلى اللغة العربية، كما ضمت الندوة عرضا سينمائيا لفيلم الوداع يا بونابرت ليوسف شاهين وعروض كرنفالية موسيقية لجنود بونابرت في شوارع المدينة وقراءات لأهم نصوص الكتاب الفرنسيين والأجانب عن بونابرت ومن بينهم عبدالرحمن الجبرتي لطلاب المدارس.
وكان د.أحمد يوسف أول المتحدثين في الندوة بمحاضرة بعنوان: "نابليون الأول ونابليون الثالث ومصر: الحلم المنقوص - les deux Napoléon et l’Egypte: le rêve inassouvi"

وفيما يلي ملخص للمحاضرة
من الخطأ الاعتقاد بأن الحملة الفرنسية على مصر (1798-1801) كانت فكرة ظهرت فجأة في السياسة الفرنسية بعد اندلاع ثورة عام 1789 وإنما هي نتيجة لمشوار طويل لفلاسفة وسياسيين وقناصل وجواسيس امتد عبر القرون الخمسة الماضية وبالتحديد غداة اكتشاف البرتغاليين لطريق رأس الرجاء الصالح عام 1498 ذلك أن هذا الاكتشاف أضر كثيرا بتجارة موانئ جنوب أوروبا وخاصة البندقية ومرسيليا مع مصر، وعندها عرض البنادقة على السلطان المملوكي قنصوه الغوري في عام 1506 حفر طريق مائي يصل بين البحر الأبيض والبحر الأحمر ولعل اللوحة الشهيرة للفنان الإيطالي جوليو كارليني التي تمثل مشهد عرض قنصل البندقية على السلطان الغوري للمشروع هي خير دليل على ذلك.
ولكن أشهر المشاريع التي دعت لغزو مصر والتي سبقت بزمان الثورة الفرنسية هو مشروع الفيلسوف لايبنيتز المعروف باسم concilium Aegyptiacum أي المشروع المصري والذي كان أحد أجزاء رسالتي للدكتوراه في جامعة السوربون التي نوقشت عام 1991 وصدرت في كتاب في باريس فيما بعد، ولكن دفعني الكاتب الصحفي المصري الراحل كامل زهيري إلى ترجمة نص المشروع إلى اللغة العربية وصدرت بمقدمة له في دار الهلال عام 1995.
المثير هو أن اندلاع الثورة الفرنسية وتكالب ممالك أوروبا للقضاء عليها بزعامة إنجلترا جعل حكومة الإدارة تفكر في حملة عسكرية على إنجلترا كلفت بها الجنرال الشاب نابليون بونابرت أواخر عام 1797، ولما أدرك هذا الأخير استحالة ضرب إنجلترا لتفوق أسطولها فتح الجميع إدراج وزارات الخارجية والحربية للبحث عن مشروع بديل وكان مشروع غزو مصر الذي دفع إليه وزير الخارجية الأشهر والأخبث تاليران من أجل قطع طريق المواصلات بين إنجلترا ودرة مستعمراتها في الشرق وهي الهند وذلك باحتلال مصر.
ويتصدر مشروع حفر قناة السويس ورقة الأمر الصادر من حكومة الإدارة لنابليون بالقيام بالحملة على مصر، وكان هذا المشروع يسمى حتى ذلك الحين مشروع "ربط البحرين"، ولن تسمى قناة السويس إلا في المشاريع الهندسية للسان سيمونيين بعد رحيل الحملة بحوالي ثلاثين عاما، وكذلك الرسوم الهندسية للمهندسين الفرنسيين المتمصرين واللذين عملا كموظفين لدى الحكومة المصرية وهما المهندس العظيم لينان بلفون (مهندس القناطر الخيرية) والمهندس العظيم الآخر شارل جوزيف لامبير المعروف باسم لامبيير بك، ولم يكن فقط جهد هذين المهندسين متعلقا بإعطاء اسم السويس للقناة وإنما أيضا تصحيح الخطأ الذى وقع فيه مهندس الحملة الفرنسية في مصر وهو لوبير، والذي اعتقد أن ربط البحرين سيؤدي إلى هلاك مصر وغرقها لأن منسوب البحر الأحمر أعلى من المتوسط.
وكان أن أفاد الديبلوماسي الفرنسي فيردينان ديليسبس من كل هذه الدراسات، وأفاد من العلاقة الخاصة التي ربطت بين أبيه ماتيو دليسبس قنصل فرنسا في القاهرة ومحمد علي وعندما عرض مشروع ربط البحرين على صديقه القديم سعيد باشا وافق هذا الأخير على منحه امتياز حفر القناة، وانطلقت أعمال الحفر في عام 1859 لتستمر 10 سنوات ويتم افتتاحها في حفل أسطوري للتجارة العالمية في نوفمبر عام 1869.
في الواقع أن حملة نابليون بونابرت كانت غزوا عسكريا فاشلا بكل المقاييس ولكنها كانت نجاحا علميا وهندسيا وصناعيا وتاريخيا، إذا ما أخذنا بعين الاعتبار نتائج أعمال علماء الحملة الصادرة في كتاب "وصف مصر" الشهير وما تلاها من اكتشافات أثرية لحجر رشيد وفك شامبليون لرموز اللغة المصرية القديمة وولادة علم المصريات وحفر قناة السويس، وإنشاء مدارس الألسن والطب والمهندس خانة والسدود على النيل وكلها بمساعدات فرنسية، يعتبر كل ذلك نصرا كبيرا للحملة.
وكلمة نصر هنا ليست عشوائية لأنها ستدخل أيضا المجال العسكرى مع إنشاء الجيش المصري الحديث بفضل أحد ضباط حروب نابليون في أوروبا وهو الجنرال جوزيف سيف المعروف لدينا حتى الآن باسم سليمان باشا الفرنساوى.
إذا كنت تريد أن تعرف مدى تغلغل الآثار العلمية والثقافية لحملة نابليون بونابرت على مصر، فانظر اليوم إلى العلاقات المتينة التي تربط بين البلدين وإمدادات فرنسا للجيش المصري بأحدث ما لديها من طائرات الرافال وحاملات الطائرات الميسترال لثقتها في أهمية هذا الجيش ليس فقط في مكافحة الإرهاب وإنما أيضا لحفظ التوازن في جنوب المتوسط كله.
أن زيارة واحدة للمتحف الحربي المصري بالقلعة التي تحمل اسم محمد علي تجعلك تدرك أن هذا الجيش لم ينس دور سليمان باشا في تأسيسه ولا في حروبه المنتصرة على السلطنة العثمانية.
أما نابليون الثالث وهو ابن شقيق نابليون بونابرت والذي عاصر حكم الخديوي إسماعيل في مصر فكان حائرا بل تكاد تكون الحيرة قد كتبت عليه كقدر ومصير، فهو يحمل اسم نابليون الذي تمجده فرنسا وأوروبا كلها ومع ذلك هو رجل مسالم يهتم بعلوم الروحانيات وبتحديث فرنسا وجعل باريس عاصمة حديثة بفضل المهندس اوسمان وكان أيضا حائرا لأنه أمام مشروع حفر قناة السويس، والذي كانت أعمال الحفر فيه أوشكت على النهاية ذلك أنه لم يكن يرد أن يغضب السلطان العثماني الذي كان يعارض المشروع ولم يكن يرد على وجه الخصوص – أغضب أصدقائه الإنجليز لأنه كان على  عكس عمه عاشقا لإنجلترا وما زال مدفونا فيها حتى اليوم.
كان أشد حيرة أمام زوجته اوجيني المتحمسة للقناة والتي ترتبط بصلة قرابة مع فيردنان دليسبس وعندما وجه الخديو إسماعيل الدعوة لأباطرة أوروبا لحضور حفل افتتاح القناة تخلص الإمبراطور الثالث من الدعوة بإرسال زوجته الإمبراطورة أوجيني.

ماذا تبقى من النابليونيين في مصر؟
تحدثنا منذ قليل عن الآثار العلمية الهائلة لحملة نابليون بونابرت على مصر، لكن يتبقى أمام المصريين اليوم آثار شاهدة على هذه النتائج العلمية الكبيرة ومنها المجمع العلمي المصرى الذي صدر قرار من بونابرت بإنشائه في القاهرة في أغسطس 1798، أي بعد شهر واحد من احتلاله لمصر، وهو نفسه المجمع الشامخ حاليا بشارع القصر العيني ويفصله عن الجامعة الأمريكية جدار بسيط، ولعل اندفاع المجلس العسكرى عام 2011 برئاسة المشير حسين طنطاوي بإصلاح المجمع وتحديثه وتزويده بكل الإمكانيات التقنية والعلمية بعد الحريق الهائل الذي تعرض له لشاهد على تمسك الجيش المصري بالقيم العلمية لتلك الحملة.
ومن آثار هذه الحملة اليوم الشارع الذي يحمل اسم العلامة مونج كبير علماء الحملة أمام مسجد السيدة زينب بالقاهرة والذي يقبع فيه بيت السناري، حيث كان يسكن العلماء وحيث وضع بونابرت المطبعة التي جلبها معه وكانت أول مطبعة تدخل الشرق وأخيرا انظر ماذا قال الزعيم جمال عبد الناصر تعليقا على حملة نابليون على مصر ففي كتاب "فلسفة الثورة" يقول عبدالناصر إن حملة نابليون بونابرت جاءت إلى مصر حاملة معها المدفع والمطبعة وقد سقط المدفع بفضل نضال الشعب المصري وبقيت المطبعة لتفتح بين البلدين آفاق مشتركة.
وعندما احتفل البلدان في عام 1998 بمرور مائتي عام على العلاقات بين البلدين اقترحت على السفير بيير هانت وعلى كامل زهيري اللذين رأسا اللجنة المشتركة المكلفة باحتفالات العلاقات المصرية الفرنسية أن يطلقا عليها وصف عبدالناصر لها وهو "آفاق مشتركة".
وعندما قام الراحل الكبير السفير علي ماهر في أكتوبر 2016 بتنظيم ندوة دولية بمكتبة الإسكندرية حول العلاقات المصرية الفرنسية أطلق عليها أيضا اسم "آفاق مشتركة".
أما زيارة الإمبراطورة أويجيني لمصر ومناسبة افتتاح قناة السويس فأعطت للراحل العظيم الخديو إسماعيل الفرصة التاريخية للقيام بإنشاءات ما زالت حية بيننا حتى اليوم نذكر منها على سبيل المثال قصر الجزيرة بالزمالك (فندق الماريوت حاليا)،  والذي تستقبلك داخله لوحتان عملاقتان لنابليون الثالث وأوجيني وأيضا الطريق الكبير الذي يربط القاهرة بأهراماتها الخالدة بل الشاليه الذي بناه كاستراحة لها عند الهرم والذي تحول فيما بعد إلى "فندق المينا هاوس" حاليا،  ثم الشاليه الآخر بمدينة الإسماعيلية، والذي يتبع اليوم القصور الرئاسية في مصر وبعد هذا تبقى قناة السويس القديمة والجديدة كحلقة وصل غير مسبوقة في التاريخ بين النابليونيين ومصر ولكن في الواقع هي تتعدى حدود الأشخاص لتكون حلقة وصل دائمة بين مصر وفرنسا.
إن أحلام الأباطرة دائما منقوصة لكن قناة السويس تبقى حلما مستمرا متجددا وحيا طالما بقيت مصر حية حتى نهاية التاريخ.