الأربعاء 24 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

مقدمات تنبئ عن نتائج.. ووسائل تكشف عن غايات

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
يرى توفيق الحكيم أن التفكير المستقيم هو الأقرب إلى النسقية منه إلى الرؤى الانتقائية الذاتية التى توقع العقل فى الاضطراب أو التناقض، ومن هذا السبيل أعجب من أناس يتمردون على الضوابط والمبادئ الحامية للمشخصات، فعندما تحجر الدولة - الممثلة فى أجهزة الرقابة - أو تصادر أو تمنع الكثير من الجيف أو الملوثات الثقافية التى يطلقون عليها كذبًا (أغانى شبابية أو أفلام أو احتفاليات ماجنة جماعية أو مؤلفات أو إبداعات) بحجة أن مثل هاتيك القرارات تتعارض مع الحريات، ونجد نفس الأشخاص المحتجين يسألون عن أجهزة الرقابة ورجال الأمن إذا وجدوا فى الأسواق أطعمة فاسدة أو منتجات رديئة، أو تفشى داخل المجتمع الجرائم المستترة ( زنا المحارم، الإدمان، الدعارة المقنعة)، والعنف فى المدارس وفساد المصالح الحكومية أو انتهازية رجال الأعمال، فقد نسى أو تناسى أولئك المعترضون أن المنظومة واحدة فالفساد فساد سوء ظهر بوجهه وذقنه أو بأثر حذائه أو بعض بقاياه، ومن الطريف أن نجد توفيق الحكيم يناقش هذه القضية خلال تباين الآراء بين الشباب والشياب فى الأذواق والأحكام والرؤى. 
فها هو توفيق الحكيم يحدثنا عن العلة الحقيقية وراء صدام الأبناء بالآباء أو صراع الشباب ضد الشياب مبينًا أن ذلك الخلاف على الرغم من واقعيته فإن قضاياه ليست معضلة، ولا تشكل إشكالية ليس لها حل، وذلك لأن الشياب يريدون تسيير أبنائهم من الشباب على نفس منطقهم الذى نشأوا عليه وورثوا معتقدين بأن التجربة أثبتت أنه ما كانوا عليه هو الصواب، ومن ثم لا ينبغى العدول عنه أو تغييره، غير أن الشباب لا يحلو لهم السير وفق اختيارات الآباء التى تقيد إرادتهم وتسجن حريتهم فى الاختيار والانتقاء والهوى - لن أعيش فى جلباب أبى - وقد اجتهد الشياب فى إغلاق كل أبواب ونوافذ الشر أمام أبنائهم بغية الحفاظ عليهم، وفاتهم أن ما يمنعونه يمكن الوصول إلى أبنائهم من السقف أو من تحت تلك الأبواب الموصدة (فكل ممنوع مرغوب وكل كبت مع الوقت يولد الانفجار) وسوف يلتهمهم الشر التهامًا لأنهم لم يتدربوا على مقاومته، وعليه فيجب توجيه الشباب عن طريق الحوار النقدى الحر الذى يتيح للثائرين منهم الوقوف على حقيقة مراميهم وأهدافهم، ويكشف كذلك للشياب والآباء أن الثقافات الراكدة شأن الأجواء المنغلقة التى يفسد هواءها بمرور الوقت طال أو قصر. 
ولا يريد الحكيم ترك الآباء أبناءهم بلا ضوابط أو ثوابت أو إلى عبث العابثين من رفقاء السوء لتوجيه سلوكهم، فإن مثل تلك الفوضى التربوية والاجتماعية والأخلاقية تهدد المجتمعات بالانهيار، فالذى يريده الحكيم من الشياب هو منهج يتيح للآباء إرشاد أبنائهم لما ثبت باليقين العقلى وبالتجربة العملية إنه صواب ودونه خطأ، أو هذا نافع ونقيضه ضار، ولما كان هذا الحكم القطعى لا يمكن تطبيقه على كل الأمور فينبغى على الشياب أو الآباء إتاحة الفرصة للشباب أن يدلوا بدلوهم والإفصاح بآرائهم وطرحها على مائدة النقد والتثاقف - وإن كانت تنقصهم الخبرة - فتنوع الآراء واختلافها فى ظل ثوابت عاقلة هى التى تدفع الثقافات والحضارات إلى الأمام. وهنالك فرق بين الاختلاف فى الرأى والاختلاف فى العقلية، فقد تتشابه العقلية فى شخصين، ويختلف الرأى بينهما، والمجتمع السليم يجب أن يقوم على قدر من الوحدة والانسجام فى عقلية الأمة، وأجيالها ومقومات الشخصية العامة، دون أن يؤثر فى اختلاف الآراء فيها. 
ومفاد رأى الحكيم هو تنبيه الشباب والشياب إلى أن كل مجتمع أو ثقافة يجب أن تغرس فى العقل الجمعى ثوابتها التى لا يمكن الخروج عنها، أى المبادئ النابعة من مشخصات تلك الثقافة أو الأمة، أو المجتمع، أما دون ذلك فيجب أن يساير الطبيعة فى تحولاتها تبعًا للواقع المعيش، كما أنه لا يسمح لعصبة أو فئة أو جماعة للخروج عن هذه المشخصات باسم الحرية أو التجديد أو التحديث، لأن فى ذلك ضياع للبنية التى تحمى الأمة من الفوضى والتشتت فى كل الميادين.
ويثير الحكيم قضية مهمة ألا وهى شرور التبعية المتمثلة فى الطاعة الجاهلة لمن يمسك بعجلة القيادة، يعنى السلطة وأهل الحل والعقد، فإنه يعول على الشباب فى المستقبل أن تكون ثورتهم نابعة من وعى فى الانتقاء والأناة فى الحكم.
وصفوة القول إن الحكيم يعول كثيرًا على ثلاثة مبادئ أساسية لتحكم العلاقة بين الشباب والشياب، أولها: احترام العقل الجمعى الحاوى لمشخصات الأمة بداية من التسامح العقدي. 
وثانيها: عرض المقاصد والغايات والوسائل والمآلات على دائرة النقد والتعقل بمنأى عن الرؤى الذاتية والشعارات الثورية، والأخذ بمنطق المصلحة العامة وقمع دون ذلك، وإن كان فيه جور على الحرية.
وثالثها: الوقوف على أصل الداء ومعالجته أو بتره عوضًا عن الشكاية والتنديد بأعراضه، وانتهى إلى أن كل ذلك لن يتحقق إلا إذا أصبح الإلزام التزامًا.
هكذا قال الحكيم، فهل من مجيب؟ 
«إن الطريق الملتوى القذر لا يوصل أبدًا إلى الخير ولا إلى الشرف، إن الغاية النبيلة ليست من الضعة حتى تقبل أن يوصل إليها بطريق غير نبيل - إن الطريق إلى الشرف هو الشرف نفسه، ولا شيء غير ذلك - والخير هو فى ذاته الطريق والغاية، لأنه شعاع من أشعة الله، والله تعالى غاية، لابد أن يكون طريقها نورًا وخيرًا». 
وللحديث بقية