الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

حد الفلسفة.. فلسفة الحد

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
فذلكة
الإجابة السريعة للسؤال عن جوهر الفلسفة ستكون هى فهم القوانين المسيرة للعالم، وربما سيوضع إلى جانبها المعنى النهضوى للإصرار على ضرورة فهم طريقة حدوث هذا الفهم.
ولكنه معنى سيعود إلى الخلف بشكل عميق، فالفلسفة ستجوب الكتب والموسوعات الحديثة مطولا باحثة عن تعريف يلبس الجبة الكلاسيكية للشمولية، قبل أن تقتنع بأن العصر الحالى يحب التجربة دون أن يولع بالدروس، مثلما يحب النظر دون أن يرى، ويحب المعلومات بلا هاجس المعرفة، مثلما كان يصفه الماركسيون منذ قرن بأنه عالم يطور الإنتاج دون تطوير سبل العدالة فى التوزيع. ستقتنع الفلسفة بأننا نعيش زمنا يضيق بالتعريفات الشمولية. الشىء الذى لن يمنع محاولات لتأطير فعل التفكير (ابن للفلسفة المدلل الآخر)، وفى ذلك سيكرر ميشال فوكو، مرارا بأن الحقيقة أو الواقع نوع من السرد، أى أنها ترتيب خاضع لاستراتيجية لأشياء الحياة، ففى كل مرة نصف واقعة، أو ننظر ثم نلقى حكما أو نجيب على سؤال أو نعطى خبرا أو نصور حادثا فى التليفزيون، تكون وراء هذا التقديم التلقائى للأشياء استراتيجيات معقدة لا شك فيها تحدد موقفا غير برىء من العالم.
تنويعات
يبدو أن كبار الفلاسفة قد ظلوا منشغلين باستمرار بفكرة تطوير سبل فهم ميكانيزمات الفهم نفسه هذه، فى محاولة فاشلة ولكن غير يائسة للارتفاع بمفاتيح تحليل النفس البشرية إلى مدارات عالية، وكان أنهم قد وثقوا، قديما، ولفترات مديدة، فى المقاربة العلمية التجريبية المنهجية، قبل أن يحل القرن العشرون بكل الشرور التى جرها، والتى راجعت ثقة عصر النهضة أولاً ثم عصر الأنوار ثانيًا فى الإنسان عموما...
من جهة أخرى، يلاحظ كارل ياسبرز، أن المنهج العلمى يواجه إشكاليتين: النقص العميق الملازم لنتائجه لأنها تولد دائما إشكاليات جديدة ووجهات نظر مستحدثة تعزز الأسئلة حول العالم، أكثر مما تعزز الأجوبة التى يبدو الإنسان مهجوسا بها كرديف للفهم.
الإشكالية الثانية التى يلاحظها «ياسبرز» هى أن «المقولات العلمية ووجهات النظر العلمية من التعدد بشكل يمتنع معه تماما ورود إمكانية لخلق جبهة فهم واحدة... وهو معنى ما كان «ياسبرز» يبشر به من تفضيله لتعريف الفلسفة من وجهة النظر التى تتضافر فيها الوجودية مع الظاهراتية، لاقتراح وصف العمل الفلسفى على أنه «توجه صوب العالم» بهدف «إنارة الوجود» بدلا من العناوين الضخمة فارغة المحتوى للمنهج العلمى، والكشف عن الحقيقة والنظر الموضوعى...إلخ إلخ..
تستدرجنا هذه الخلفية إلى اتجاهين اثنين: واحد هو نشأة الفلسفة كنشاط هيرمينوطيقى، وميلها صوب استقصاء النصوص الأدبية كطرق ناجعة لتحصيل «حقيقة ما»؛ ولا يهم كونها الحقيقة لا تملك أدوات التعريف «الحقيقة». والاتجاه الثانى: هو ذوبان البحث الفلسفى فى تقصى الطريق الذى أهملته الفلسفة منذ أقدم الأزمنة: النظر فى الحقيقة الفنية. والغالب عند الفلاسفة الظواهريين والوجوديين هو تبنى وجهة نظر ياسبرز التى تعد: «الفن إضاءة كلية للوجود الإنسانى». فالحقيقة الفنية تنشئ معرفة شعرية تقول مضامين جديدة تبدو خارج دائرة «اللوغوس»، من منطلق أن اللوغوس الغربى يقارب الإنسان مقاربة تقليدية، فهو يعمل حسب أنظمة معدة سلفا. فى الحين الذى يقر الفلاسفة على طريق ياسبرز بأن «حقيقة الإنسان تتجاوز إمكانياته لمعرفة نفسه». فى المنظور نفسه، يقر غابرييل مارسيل «أشعر دائما وفى كل لحظة من حياتى بأنني أتجاوز تماما كل محاولة بحث أقوم بها لوصف نفسى أو يتولى القيام بها غيرى»، وفى المقولة دعوة لتأمل هامش الغرابة الذى ينتبه إلى نقطة مركزية فى الفكر الفلسفى، هى ميل ماضى الفلسفة إلى الاهتمام بالمؤتلف على حساب المختلف الذى يشذ دائما فيما وراء أسيجة التجربة المتكررة والنماذج القابلة للوصف. 
السؤال المنطقى هو: كيف تخلق نظرية للشاذ الهارب من القاعدة والمستعصى على الاستقراء؟ يجيب سورن كيركجارد، بطريقته الفريدة: «الحقائق والمبادئ العلمية التى تغرى العقل باتباعها، لأنها ضرورية وتحظى بالتصديق الواسع، هى حقائق قاصرة تماما، ولا أشعر بأنها تحيط بوجودى المتفرد الناشز عن كل حقيقة خارجية، إنها فى الواقع لا تجيب عن أى من أسئلتى القلقة حول نفسى. حقيقتى ومصيرى»... ولكن الإضافة الأكثر جدارة بالتوقف عندها هى ما عرف به جيل دولوز الفلسفة قائلا: لا نظرية فى الفلسفة، إن هى إلا حيل لترتيب وقائع الفهم، فالفلسفة فى عرفه «مجرد ابتكار للمفاهيم»، وفى الحين الذى تخوف «كانط» من مواجهة حقيقة أن الفلسفة ترى نفسها بعين لا وجود لها خارج أسوار كليات الفلسفة، وأن هذا الوضع، وضع عليه أن يتغير، فاعترف من خلال عنوانه «تقد العقل الخالص» بوجود عقل خالص أصلا، ترى جيل دولوز يقول إن التعريف الأرسطى ينبنى على أكذوبة كبرى هى الجواهر القديمة، أو القوانين الأولى التى تنظم الوجود، والتى درجت العادة أن يغرق الفلاسفة فى فهمها أو محاولة فهمها. إبداع المفاهيم الدولوزى هذا يحدث أن ينسف القواعد الأولى بلا وعى منه أصلا.
خلاصة القول
يواجهنا هنا السؤال: ماذا نفعل بتاريخ الفلسفة فى هذه الحالة؟ هل نرسله إلى المتحف مثلما قال هوايتهيد وبرتراند راسل؟ أم أننا نتخذها مناسبة لنقد مشاريع بالية قديمة وبناء مشاريع حديثة تستجيب للقلق العميق الذى يملأ صدر هوسيرل؟ ما بعد الحداثة طرحت الأمر بشكل مختلف تماما: فكل الخطابات تشكل ورايات حول العالم وادعاءات حول الحقيقة، ولسنا مطالبين بشىء آخر عدا تشكيل قصتنا الخاصة. من خلال استثمار هذا التاريخ النصى، فمنظرو ما بعد الحداثة يصرون على خلق علاقات التحويل مواقف جديدة إزاء التركيبة الجديدة للخطاب، والتى هى اجتماع سرد اليوم بسرد الأمس، مواقف تسمح للكاتب بتفجير طاقات «الصيغة» (أو طرق العرض) وتسمح للقارئ باستحداث نظرة جديدة صوب الأشياء أو رواية مفارقة للعالم، رواية يشارك فيها أصحاب التجارب الحدية، والملامح عسيرة التأطير.